خزانة ملابس اللاجئين
ماذا لو كنت تملك قطعة ملابس واحدة، كيف ستواجه الشتاء !
عندما لا يكون المأوى منزلاً، ولا مكان الإقامة مدينة أو قرية، بل خيمة نصبت في العراء بالتأكيد حينها لن تشبه خزانة الملابس الموجودة داخل تلك الخيمة الخزائن بالمعنى المألوف لديك.
بل على العكس تماماً، ستتحول قطعة الخشب الكبيرة تلك إلى صندوق من كرتون صغير مهترئ يحتوى على ملابس تشبه الملابس، قديمة ومليئة بالرقع!
ولكن في أغلب الأحيان ستجد ذلك الصندوق فارغاً.
فمن يملك قطعة ملابس واحدة لا يحتاج لصندوق ولا لخزانة لتوضيب تلك القطعة!!
وهكذا تماماً كان حال القاطنين في مخيم أعزاز بريف حلب الشمالي بسوريا.
الخزانة رقم 1
فارغة تماماً!
الساعة تشير إلى الخامسة فجراً، استيقظ محمود/ 4 سنوات من النوم بعد ليلة شديدة البرودة، مطر غزير لم يتوقف عن الانهمار ودرجات الحرارة دون الصفر.
يقول لنا وأنفاسه ترسم خيطاً في الهواء كالدخان "الجو بارد في الليل، وقد استيقظت باكراً لأنني أشعر بالبرد، قدمي مثل الثلج، وأحياناً أفقد الشعور في أصابع قدمي".
فهو لا يملك حذاءاً ولا جوارب، وكل ما يملكه هو البنطال الأسود والكنزة التي يرتديها معه.
حتى أنه يرتدي صندلاً يكبر مقاس قدمه، أخده من أخته لكن لا يهم، بالنسبة إليه ذلك أفضل من المشي حافي القدمين.
محمود مثل كثيرين غيره من الأطفال الذين التقيناهم في المخيم، يكرهون الشتاء!
فالطقس الشتوي القاسي، بما في ذلك العواصف الأخيرة والأمطار الغزيرة وهبوط درجات الحرارة جعل الظروف أشد قسوة على الأطفال.
تكافح عائلة محمود لتزويد أطفالها بالغذاء، وتأمين حطب التدفئة في خيمتهم البسيطة الخالية تماماً من نوافذ أو أبواب لتصد الرياح من اقتحام خيمتهم.
ولن يستغرق منك الأمر أكثر من عشر ثوان للتعرف على محتويات تلك الخيمة، حصائر وبطانية ومدفأة لا تعمل وأغراض للأكل.
فهنا لا مكان لخزانة ملابس ولا للأحذية!
في سوريا 2.6 مليون طفل مشردين داخل البلاد "اليونيسيف"
الخزانة رقم 2
لا حاجة إليها فلدي ملابس أختي!
صباح كل يوم اثنين هو يوم الغسيل الأسبوعي في خيمة الطفلة آية، اليوم الذي تكرهه بشدة!
عندما سألنا آية عن عمرها، رفعت كتفيها قليلاً وقالت لنا "لا أعرف"، الأمر الذي تكرر معنا مع كثير من الأطفال الذين قابلناهم!
هم لا يعرفون أعمارهم!
ولكن عندما سألنا آية عن السبب وراء كرهها ليوم غسيل الملابس، سارعت بالإشارة إلى ملابسها، كنزة مخططة بالألوان البيج والأحمر والأسود وبنطال جينز، تقول "لا أملك غير هاتين القطعتين".
ولكن لدى أختها الأكبر منها الحل، فهي تملك كنزة وبنطالاً إضافيين، ترتديهما آية رغم مقاسهما الكبير ريثما تجف ملابسها المغسولة.
تجلس آية إلى جانب ملابسها المنشورة بجانب مدفأة الحطب، فهي تعتبر نفسها أوفر حظاً من كثيرين غيرها فوالدها يعمل بجمع الحطب وفي خيمتهم يوجد مدفأة!
تقترب أكثر من المدفأة لتدفىء قدميها، فلم تكن ترتدي سوى صندل منقوش وبدون جوارب.
تقول"الأرض باردة جداً، والمشي عليها يجعلني أشعر بالمرض"!
رغم توفر المدافئ البدائية في الخيم، لكن المشكلة في صعوبة توفير الخشب!
تقول آية "عادة ما نشعل النار في المدفأة مرة واحدة يومياً، ولكن عندما يكون الجو بارداً كما هو الحال الآن، فإننا غالباً ما نشعله مرتين في اليوم".
والآن حان موعد إطفائها، تخمد النار داخل المدفأة النحاسية المتهالكة رويداً رويداً و تلفظ آخر أنفاسها ليتحول اللون البرتقالي لرمادي شاحب تماماً كلون الخيمة التي تحتمي فيها آية مع عائلتها.
"تُقدِّر اليونيسف أن أكثر من 300 ألف شخص نزحوا منذ ديسمبر/كانون الأول، وأن 1.2 مليون طفل في حاجة ماسة للمساعدة"
الخزانة رقم 3
جوارب الجدّة
دقت الساعة الثامنة، ارتدى محمود/ 13 عاماً جزمته الصفراء النظيفة. كان قد حصل عليها خلال عملية توزيع أخيرة لإحدى المنظمات.
خطوتان فقط خارج خيمته كانتا كفيلتان بتحوّل لون هذه الجزمة الصفراء إلى اللون البني، فالوحل في كل مكان وخاصة بعد ليلة مطرية غزيرة، يقول لنا "أتمنى أن يختفي هذا الوحل، كل حياتنا وحل!"
ويتابع بقوله إنه عندما يكبر سيعمل على فرش الأرض في كل مكان بالإسفلت، وسيتخلص من الوحل نهائياً!.
تابع طريقه ومشى على بعد 3 خيمات من خيمته، فهناك مدرسته التي تضم عشرات الأطفال من مختلف الأعمار.
خلع جزمته ودخل إلى الخيمة!
يشير محمود إلى جواربه الطويلة ويقول "هذه جوارب جدتي!" يضحك هو وأصدقاؤه، ليقف ويتجوّل أمامهم متباهياً بهذه الجوارب السميكة.
محمود أيضاً لا يملك ملابساً سوى تلك التي يرتديها، لكنه يعتبر نفسه محظوظاً بغنيمته "جوارب الجدة".
تلفّت محمود يمنة وشمالاً حتى وجد صديقه خلف/ 12 عاماً، جلس بجانبه حيث تجمعهما صداقة قوية فقد نزح كلاهما إلى هذا المخيم منذ أكثر من عامين، ما يعني أن هذا فصل الشتاء الثالث الذي يمر عليهما.
لكن بالنسبة لخلف هو "الأصعب بينها جميعاً" يقول "أتمنى فقط أن ينتهي فصل الشتاء"!
بالتأكيد لديه كل الحق في هذه الأمنية، وخاصة أنه يرتدي ملابساً لن تصمد بخفتها أمام رياح الشتاء وبرده القارس.
وعندما سألناه ماذا ترتدي عوضاً عنها عندما يحين موعد الغسيل أجابنا "أختبئ تحت البطانية ولا أتحرك أبداً ريثما تجف ملابسي".
"كثيرون يعيشون في العراء في أماكن مثل المتنزهات ووسط الأمطار الغزيرة والبرد القارس" اليونيسيف
الخزانة رقم 4
البطانية التي أصبحت معطفاً
عندما ينتصف النهار في مخيم أعزاز، تبدأ رائحة الطعام تفوح من داخل الخيم، هذه الرائحة التي لم يستطع يزن/ 7 سنوات مقاومتها، لكنه تريث قليلاً قبل الدخول إلى خيمته وبدأ بإطلاق أصوات غريبة "بسسسس. بسسسسس" وما هي إلا ثوان حتى ظهر قط أصفر اللون.
حمله بين يديه ودخل خيمته كي يتناولا طعام الغداء.
يقول "أنا مثل قطي هذا أمشي حافي القدمين، لكن لماذا لا يشعر هو بالبرد! أحياناً أفقد الشعور بقدمي لشدة البرد"!
لم يختلف الوضع هنا كثيراً! المشهد نفسه طفل صغير يملك فقط الملابس التي يرتديها، فالقاطنون هنا هربوا على عجل من منازلهم واكتفوا بالاحتياجات الأساسية، وربما هم أفضل حالاً من النازحين الجدد، من مناطق ريف إدلب.
ففي الوقت الذي ينام هؤلاء في خيم، فإن النازحين الجدد والذين تقدّر اليونيسيف أعدادهم بأكثر من 300 ألف يعيشون في منشآت عامة مثل المدارس أو المساجد، فيما يعيش آخرون في مبان هي فعلياً عبارة عن مواقع بناء غير مكتملة.
ولكن ذلك لا يلغي فكرة الظروف الصعبة التي تعاني منها المخيمات وخاصة في فصل الشتاء، فمثلاً يزن يواجه صعوبة كبيرة في النوم ليلاً لأن عليه أن يتشارك بطانية واحدة مع 4 من إخوته.
يقول "عندما يحالفني الحظ أنام في المنتصف بينهم، حينها فقط أستمتع بالبطانية".
"نازحون يعيشون في منشآت عامة مثل المدارس أو المساجد، فيما يعيش آخرون في مبان هي فعلياً عبارة عن مواقع بناء غير مكتملة" اليونيسيف
الخزانة الأخيرة
حذاء سندريلا
للأطفال ألوان مفضلة، عادة تختار الفتيات اللون الزهري بينما يفضل الصبية الأزرق أو الأخضر، ربما لذلك اعتبرت سناء/6 نفسها محظوظة للغاية فعلى الرغم أنها تملك كنزة واحدة، لكنها تعتبرها الأجمل فهي زهرية اللون.
ترتدي معها جزمة أيضاً زهرية اللون، أو هكذا قالت لنا كان لونها قبل أن تقع داخل حفرة من الوحل فتحول ذلك اللون الزهري إلى بني موحل، ولكن هذه الجزمة بالنسبة إليها أجمل من حذاء سندريلا، تلك الأميرة التي سمعت عنها قصصاً من والدتها دون أن تتعرف على شكلها ولا على حذائها.
لكنها تثق بكلام والدتها "جزمتي أجمل من حذاء سندريلا".
الساعة الآن تشير إلى الثالثة ظهراً، التقينا في ساحة المخيم بمجموعة أطفال يلعبون، ولكل منهم طريقته في مواجهة هذا البرد القارس.
خديجة/ 10 سنوات: أغسل ملابسي مرتين في الأسبوع، حينها أستعير من أختي ملابساً ريثما تجف ملابسي.
يوسف/ 6 سنوات: لا أملك معطفاً لكنني أضع البطانية فوق أكتافي عندما أشعر بالبرد الشديد.
محمود/ 5 سنوات: اشترى لي والدي هذا المعطف من البالة!
عبد الحي/ 10 سنوات: لدي بنطالين ولكنني أرتديهما معاً، لأن أحدهما خفيف ولا يدرأ عني برد الشتاء.
عدنان/ 11 سنة: لا أملك معطفاً لكنني استعيض به بارتداء كنزتين فوق بعضهما، وأرتدي جوارب لكن كل فردة مختلفة عن الأخرى!
دقت الساعة الخامسة عصراً، ويعني هذا في توقيت مخيم أعزاز اقتراب موعد النوم، وحتى إن حاولت استراق السمع لأصوات الأطفال لتتأكد أنهم خلدوا إلى النوم، لن تستطيع! لأن صوت الرياح أقوى، تلك الريح الباردة التي ينتظرون بفارغ الصبر أن تتوقف عن نهش أجسادهم الصغيرة!