أنت في هذه اللحظة طفل في مخيم!
360 يوماً عادياً في مكان غير عادي
ماذا يعني أن تعيش 360 يوماً في بقعة خالية من كل شيء، لا مدارس ولا أسواق ولا شيء إلا الغبار والتراب وطبعاً الخيام.
ربما كنت واحداً ممن يعتقد أنه لن يجد نفسه يوماً في مثل هذا المكان، تماماً مثل الطفل السوري عبدالرزاق فقبل عام واحد فقط كان يعيش مثلك في منزل ينام على سرير ويرتاد مدرسته بريف إدلب وهناك كان يلعب مع أصدقائه ويتعلّم كي يصبح يوماً ما صحافياً.
رغم أن عبدالرزاق خسر منزله ومدرسته وأصدقاؤه، لكنه ازداد تمسكاً بحلمه بأن يصبح صحافياً، وضع كاميرا صغيرة على رأسه، وبدأ بتوثيق لقطات من حياته في إحدى مخيمات ريف إدلب.
وإلى هناك سيصطحبنا عبدالرزاق في رحلة لمدة عام.
صيف 2019
ليست النقاشات ولا الكلمات هي التي حسمت قرار والد عبدالرزاق بالنزوح، بل وحدها القذيفة كانت صاحبة القرار في هذا الموقف.
فهو الرجل الأربعيني لم يعد قادراً على رؤية أطفاله يرتجفون خوفاً في كل مرة يسمعون فيها هدير الطائرات، يحتمون بالبطانيات رغم قيظ الصيف لأنهم يعتقدون أنها ستحميهم!
ففي تلك الليلة، وضبوا أغراضهم وانطلقوا، عبدالرزاق وإخوته الستة ووالديه باتجاه مخيم يقع شمالي مدينة إدلب.
"كان الظلام حالكاً" هذا كل ما يتذكره عبدالرزاق عن تلك الليلة، كان يردد بينه وبين نفسه سؤالاً لم يجد إجابته حتى اليوم "لماذا حصل ذلك معنا؟ لماذا غادرنا منزلنا لنعيش في خيمة؟".
وهنا كانت الصدمة الثانية التي تلقاها عبدالرزاق..
فعندما وصلت العائلة في ساعات الفجر الأولى لم يجدوا مكاناً يأويهم "وكان على الأب أن يشتري خيمة" يقول عبدالرزاق!
إذاً حتى من أجل الحصول على خيمة صغيرة عليك دفع ثمنها.
"كان والدي يشعر بالغضب والخوف، كيف ستلبي تلك الخيمة احتياجاتنا"!
هذا السؤال نفسه رددته قرابة 200 عائلة سورية نزحت في ذلك الصيف إلى هذا المكان البائس، حيث التقى عبدالرزاق لاحقاً بكل من عبدالناصر وحسن.
وفي المكان نفسه حيث التقى أعضاء من منظمة حراس الطفولة، لعبوا، وضحكوا وتحدثوا كثيراً عم مرّ به هو وعشرات الأطفال، فهم كانوا بأمس الحاجة للدعم النفسي، وهنا جاءت فكرة الكاميرا، هذه المرة سيوثق الحياة داخل المخيم طفل وليس الصحافيين!
عبدالرزاق وحسن وعبدالناصر
عبدالرزاق وحسن وعبدالناصر
المشهد الأول: تفاصيل يوم صيفي
من يشاهد اللقطات الكثيرة التي صورها عبدالرزاق، سيتوه معتقداً لوهلة أن هناك خطأ تقني يكرر تلك المشاهد مع اختلاف بسيط بالسيناريو والكلمات!
لكن في الحقيقة أن عشرات الساعات بالفعل تشبه بعضها البعض، المكان نفسه والملابس نفسها، والوجوه لا تتغير حتى لقمة الطعام التي يتناولونها تكاد لا تختلف إلا في حالات قليلة.
اللقطة الأولى/ الساعة 7:30 صباحاً
رغم أن كاميرا GoPro التي استخدمها عبدالرزاق تمتاز بعدستها الواسعة، لكن الخيمة التي يعيش فيها لا تستدعي استثمار تلك التقنية، ففي أقل من جزء من الثانية ستجد نفسك خارج تلك الخيمة.
هناك حيث ستجد دلواً بلاستيكياً ذلك الذي يستخدمه عبدالرزاق ليغسل وجهه، ومن ثم ينطلق باحثاً عن صديقيه عبدالناصر وحسن حتى قبل أن يتناول فطوره.
ماذا تعمّران من الحجارة؟
نعمّر قبراً!
ربما سيكون وقع تلك الإجابة "صادماً" لمن يتلقاها مباشرة بعد تحية الصباح، لكنها لم تكن كذلك لعبدالرزاق فهو يعرف تماماً ما مرّ به صديقيه قبل وصولهما إلى هذا المخيم.
بل حتى قرر أن يشاركهما في بناء هذا القبر!
اللقطة الثانية/ الساعة 10:00 صباحاً و الساعة الثالثة ظهراً
على عكس كثيرين من الأطفال لن يطرح عبدالرزاق على والدته هذا السؤال "ماذا سنتناول على الفطور أو الغداء؟"، سيكتفي بغسل يديه والجلوس إلى جانبهم على الأرض لتناول الطعام.
فالطعام نفسه كل يوم، وخاصة في ظل انهيار قيمة الليرة السورية وارتفاع الأسعار بشكل كبير في الأسواق، حيث بات كل دولار أمريكي يعادل 1700 ليرة سورية تقريباً.
لم يتذمر عبدالرزاق بأي تسجيل من تسجيلاته من الطعام الذي يتناوله أو نقص المياه، بل على العكس تماماً يقول والده لنا أن هذا الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره يحمل من الهموم الكثير، فهو يفكر بإخوته ويغضب لحزن والديه حول الأوضاع التي آلت إليها حياتهم.
ينهي عبدالرزاق طعامه كل يوم في نفس الوقت، ليعاود اللعب مع صديقيه.
وعلى اعتبار أن النشاطات المتاحة للعب داخل المخيم شبه معدومة وتقتصر على ما يجدونه على الأرض من حصى وحجارة، فقد اختاروا رواية قصص لبعضهم البعض، قصص منسوجة من خيالهم.
واليوم دور حسن.
كان يا ماكان في قديم الزمان:
ولن ينغّص عليهم رواية حكاية أو لعبة تعمير بالحجارة إلا صوت هدير الطائرات، وهم الخبراء اليوم بوضعياتها المختلفة وخاصة تلك التي تنبئ بإمطارهم بالقذائف تماماً كما كان الوضع عندما كانوا في قريتهم وتحديداً في مدرستهم إحدى ضحايا ذلك القصف الذي تسبب في توقفها عن استقبال الطلاب.
فاليوم وبعد قرابة عشر سنوات من الحرب تضررت مدرستان من كل خمس مدارس في سوريا أو دمرت بالكامل بحسب اليونيسيف.
وبالتالي توقف أكثر من مليوني طفل عن ارتياد المدارس أي ثلث أطفال سوريا اليوم هم خارج المدرسة ومنهم عبدالرزاق وصديقيه.
فالمخيم حتى صيف 2019 لم يكن فيه مدرسة، وهذا الوضع سيختلف لاحقاً في شتاء 2020 ولكنه لن يدوم بسبب الخوف من انتشار فيروس كورونا.
يختفي هدير الطائرة ويعود الأصدقاء الثلاثة لمتابعة اللعب.
اللقطة الثالثة/ الساعة 7 ليلاً
وحدها الشمس من تعلن نهاية يوم عبدالرزاق وناصر وحسن، فلا كهرباء هنا لذلك ما أن تبدأ الشمس بالغروب حتى يتوجه الأصدقاء الثلاثة كل إلى خيمته.
هم حتى لا يودعون بعضهم ولا يتفقون عما سيفعلونه في اليوم التالي أو حول المكان الذي سيلتقون عنده.
فاليوم أشبه بأمس وبالغد!
إلى أن جاء فصل الشتاء حاملاً معه هموماً من نوع آخر، لكن افتتاح مدرسة في المخيم خففت نوعاً ما من عبء تلك الهموم!
المشهد الثاني: تفاصيل يوم شتوي
اللقطة الأولى/ الساعة 7:30 صباحاً من شتاء 2020
اليوم سيلتقي عبدالرزاق صديقيه لكن ليس من أجل اللعب، بل للذهاب إلى المدرسة، التي تبرّع من أجلها أحد الأشخاص.
تلك الخيمة رغم بساطتها والمبلغ الزهيد الذي يمولها لكنها كانت كفيلة بنشر المعنويات الإيجابية لدى أطفال المخيم.
فهم عكس كثيرين من الأطفال لن يبكوا في اليوم الدراسي الأول، ولن يتذمروا من فكرة الذهاب إليها، ربما لأنهم يدركون ما معنى خسارة المدرسة والعودة إليها.
وهذا ما مر به بالضبط عبدالرزاق، يقول والده لنا أن طفله كان مجتهداً في المدرسة، وتوقفه عن ارتياده أثر في نفسيته وكاد يدخله بنوبة اكتئاب.
اللقطة الثانية/ الساعة 4 ظهراً من شتاء 2020
هنا ستمضي الأيام دون أن تشعر بذلك، فأنت منشغل بالتفاصيل البسيطة التي فرضتها الحياة البدائية هذه، مثلاً كيف ستشعل ناراً أو تغسل ملابسك؟ أو كيف تتخلص من الطين الذي تراكم فوق حذائك!
اللقطة الأخيرة/ فيروس كورونا في شتاء 2020
ليست الحرب وحدها التي يمكن أن تعاملك بقسوة، فكذلك المرض يمكن أن يقف في طريقك، فمع انتشار فيروس كورونا عالمياً أغلقت المدارس أبوابها أمام الطلاب في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية.
وبالطبع كانت مدرسة عبدالرزاق واحدة من تلك المدارس!
فهو اليوم يشتاق لمدرسة المخيم، ومدرسة قريته وقريته. باختصار يشتاق للعودة إلى حياة طبيعية!
ولم تسجل إدلب وريفها التي تأوي أكثر من 3 مليون إنسان أي حالة كورونا حتى اليوم، فيما يتخوف الاطباء من ان انتشار الكورونا في المخيمات المكتظة يمكن ان يؤدي الى كارثة انسانية في المنطقة التي تفتقر الى العناية الطبية المناسبة نتيجة الدمار الذي لحق بالقطاع الطبي جراء الحرب المستمرة منذ تسع سنوات.
عبدالرزاق لا يزال مستمراً بتوثيق حياته في المخيم حتى هذه اللحظة، فهو ينتظر بشغف مع صديقيه الرحيل من هنا.
متى سنرحل من المخيم... السؤال الذي لطالما رددوه في مقاطع الفيديو المصورة ولم يحصلوا بعد على الإجابة..