سكاكين تحت المخدات: “ننتحر أو نقتلهم”… عن نساء وأطفال السودان

بعد مرور أكثر من عام على الحرب في السودان، تبرز معاناة السودانيات اللواتي تتكشف أوضاعهن المأساوية يوماً بعد يوم خصوصاً مع التقارير الحقوقية التي تتحدث عن عنف واعتداءات جنسية ممنهجة بحق النساء.

رصاصة اقتحمت منزلها حسمت الأمر، رغم تأجيل قرار الرحيل على مدار 6 أشهر، أي منذ 15 أبريل/نيسان 2023، عندما اندلع الصراع في السودان بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

حان الوقت لتوضيب حقيبة صغيرة ومغادرة المنزل الذي عاشت فيه طيلة حياتها، بلسم عبدالرحمن (30 عاماً) من سكان أمدرمان في ولاية الخرطوم في السودان، وجدت نفسها عالقة في رحلة نزوح قاسية منذ 6 شهور إلى اليوم.

الرصاصة لم تؤذ أحداً، نجت بلسم وشقيقتاها الاثنتان ووالدتهن، رغم أن الرصاصات الطائشة لم تكن أكبر مخاوفهن، فالسيدات الأربعة، اعتدن النوم يومياً فوق مخدات تخفي تحتها سكاكين، في حال اقتحم منزلهن عناصر من قوات الدعم السريع، ستخرج هذه السكاكين إما لقتل العناصر وإما لقتل أنفسهن “لن نقبل أن يتم اغتصابنا، سنقتلهم أو نقتل أنفسنا قبل ذلك” تقول لنا بلسم.

هذا الوضع لا يقتصر عليهن فقط، بل ينطبق على الكثيرات مثلهن، اللواتي لا تكاد السكاكين تفارقهن “للدفاع عن أنفسهن في حالات الضرورة” كما توضح لنا بلسم.

Item 1 of 1

الرحلة بدأت من منطقة كرري في أمدرمان

تعتبر محلية كرري حيث يقع منزل بلسم، آخر المناطق الآمنة لسكان العاصمة السودانية، التي لم يستطع إلى اليوم، عناصر قوات الدعم السريع اقتحامها، بحكم وجود قواعد عسكرية للجيش السوداني فيها، مثل قاعدة وادي سيدنا.

هذه القواعد العسكرية حالت دون دخول قوات الدعم إلى المنطقة، لكنها حولت حياتهم إلى “جحيم” تقول بلسم.

في أحد صباحات شهر سبتمبر/أيلول 2023، أي بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب في السودان، نزحت بلسم مع عائلتها من منزلهم، في الوقت الذي اختار كثيرون مغادرة العاصمة نهائياً باتجاه ولايات أكثر أمناً، نزح آخرون إلى هذه المنطقة (كرري) التي لا تتجاوز مساحتها 3900 كيلومتر مربع، ليتضاعف عدد السكان فيها إلى قرابة المليون شخص.

أن يعيش مليون شخص في هذه المساحة، يعني أن كل كيلومتر مربع، يضم قرابة 265 شخصاً، يعانون من انقطاع دائم في الكهرباء، ويرزحون تحت الرصاص الطائش الذي يستهدف منازلهم، ويتحملون أصوات المدافع التي لا تكاد تتوقف طيلة اليوم، والتي إن لم تستهدفهم مباشرة، تهز منازلهم وتشقق جدرانها من شدة قوتها.

والأهم من كل ذلك، أن تعيش في حالة رعب مستمرة من أن تقتحم قوات الدعم السريع المنطقة، بعد إحكامها السيطرة على معظم مناطق العاصمة الخرطوم، الأمر الذي كان يرعب بلسم وعائلتها، وخاصة ما يتردد عن اغتصاب السيدات والفتيات والجثث المرمية في شوارع الخرطوم.

اليوم، هناك عدد هائل من النازحين بسبب الصراعات في السودان يبلغ 10.7 مليون شخص، منهم تسعة ملايين داخل البلاد، بينما فر 1.7 مليون شخص من العنف إلى البلدان المجاورة.

وبحسب تصريح سابق لإيمي بوب، المدير العام “للمنظمة الدولية للهجرة”: “اعتباراً من اليوم، يوجد واحد من كل ثمانية نازحين داخلياً في العالم في السودان”.

Item 1 of 1

منهم بلسم وعائلتها الصغيرة والكبيرة….

النزوح هنا من منطقة إلى منطقة له شروط للنجاة، أهمها بحسب بلسم “ألا تتنقل مجموعة من السيدات وحدهن، خوفاً من تعرضهن للاغتصاب”، لذلك اختارت والدتها أن تنزح مع عائلة زوجها، كانوا 4 عائلات، توضح بلسم لنا “لقد اخترنا المغادرة مع العائلة الكبيرة بحيث نشكل حماية لبعضنا بعضاً”.

تعتبر بلسم نفسها أوفر حظاً من كثيرين ممن هربوا من منازلهم على عجالة، دون أن تتاح لهم فرصة توضيب الأوراق الثبوتية، الأمر الذي استطاعت هي القيام به، فقد وضبت أوراقاً رسمية والقليل من الملابس.

أغلقت بلسم باب منزلها، غادرت…مشت بضع خطوات، نظرت مجدداً خلفها نحو منزلها، تمتمت في قرارة نفسها بكلمات تعده بالعودة قريباً، رغم شبه إدارك أن ذلك لن يتحقق، ومع مرور الأيام زاد يقينها بصعوبة تحقيق ذلك، خاصة بعد ما وردها من معلومات لاحقاً، أن منزلهم تمت سرقته بالكامل “حتى البلاط تم تكسيره” تقول لنا.

المسافات التي تفصل بين المدن في أوقات الحروب تتضاعف، والتنقل الذي كان أيام السلم سهلاً ومن المسلمات، يصبح شبه مستحيل خلال الصراع، وهذا ما حصل مع بلسم وعائلتها، حيث استغرقهم الوصول إلى وجهتهم في مدينة عطبرة قرابة 16 ساعة.

تقول لنا: “في الأحوال العادية تستغرق مثل هذه الرحلة قرابة 5 ساعات، لكن بسبب التفتيش العسكري في كل منطقة والقصف العشوائي تأخرنا في رحلتنا، خاصة وأننا علمنا لاحقاً أن باصاً آخر كان يسبقنا، تعرض للقصف ومات كل من فيه”.

الأصعب من رحلة النزوح هذه، كان إيجاد منزل يُؤوي بلسم والعائلة الكبيرة المكونة من قرابة 50 شخصاً، خاصة وأن أصحاب المنازل رفعوا الإيجارات إلى أرقام خيالية فزادت عشرات الأضعاف.

Item 1 of 1

مرة أخرى رحلة نزوح قاسية لمدة 4 أيام 

مرت قرابة 3 أشهر على إقامتهم في مدينة الدندر، سقطت خلالها مدن مجاورة بيد قوات الدعم السريع، وخاصة مدينة ود مدني ثاني أكبر مدن السودان، التي تعد أكبر مصدر غذائي واقتصادي في البلاد، وتتميز بموقعها وسط العديد من الولايات، وتبعد عن العاصمة السودانية الخرطوم حوالي 200 كيلومتر.

مع سقوط هذه المدينة شعرت عائلة بلسم بالرعب، لأن الخطر اقترب منهم، ولابد من الرحيل مجدداً.

هذه المرة استغرقت رحلة النزوح إلى مدينة جديدة وهي مدينة الدامر 4 أيام، حملوا خلالها أغراضهم واستقلوا “الدفار” التي تعني باللهجة السودانية الشاحنة الكبيرة.

رحلة قاسية باءت بالفشل، لأنهم لم يجدوا منزلاً في هذه المدينة، فأسعار الإيجارات “خيالية” على حد وصف بلسم، بعد 10 أيام غادروها وتوجهوا نحو مدينة عطبرة ذات الأحياء العشوائية غير المكتملة البناء، لكن هذا لم يمنع مالكيها من فرض أرقام خيالية للإيجارات، فلا رفاهية في اختيار ولاية جديدة بعد التطورات الميدانية الحاصلة، وتوسع مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، لينحصر الخيار بمناطق محددة.

وأخيراً وجدوا في عطبرة منزلاً، ولكنه بلا أبواب ولا نوافذ، مكوناً من 3 غرف وحمام واحد، سيقطنه 52 شخصاً، ضمنهم بلسم.

بعد استئجاره، أغلقوا نوافذه وأبوابه بالكراتين والنايلون، وفرشوا أرضه الترابية بفرشات إسفنجية، كل شخصين اثنين منهم ينامان على واحدة، هذا إضافة إلى صعوبات تأمين المياه والكهرباء.

وبسبب تنقلهم بين بيئات ومناطق مختلفة الأمراض، أصيب عدد منهم بأمراض مثل: الحمى المالطية، الحمى النزفية والملاريا الحبشية، “هذه الأمراض بالأساس كنا نسمع عنها فقط، لكن مع الأسف الشديد تعرضنا لها، وجزء كبير من عائلتي عانى منها” تقول لنا بلسم.

ويعتبر انتشار الأمراض هذه تحدياً، خاصة وأنه كما أشارت منظمة الصحة العالمية مؤخراً إلى أن “70 بالمئة من المستشفيات الموجودة في الولايات المتضررة من النزاع لا تعمل، وأيضاً ما يقرب من نصف المرافق الصحية في بقية أنحاء البلاد أصبح خارج الخدمة، أما المستشفيات التي تعمل، فهي مكتظة بالمرضى الذين يبحثون عن الرعاية، والعديد منهم من النازحين داخلياً”.

وليست التحديات الصحية، هي الوحيدة التي تواجه النازحين في السودان في مختلف المدن، بل أيضاً غلاء الأسعار بشكل كبير للغاية، وعدم وجود وظائف ومصادر دخل، فمثلاً عائلة بلسم المكونة من 52 شخصاً، كلهم توقفت أعمالهم ووظائفهم، والدعم المادي الوحيد الذي يحصلون عليه هو من عمتهم التي تعيش في السعودية.

ماذا بالنسبة للأطفال والتعليم؟

في عائلة بلسم 4 أطفال “وضعهم سيئ للغاية” بحسب كلام بلسم، نزحوا 3 مرات، خسروا الكثير من أوزانهم بسبب تغير النمط الغذائي وحرمانهم من الكثير من العناصر الغذائية المهمة.

وهذا ليس وضعاً خاصاً بهم فقط، فبحسب ما أشارت إليه “اليونيسيف” في تقرير “هناك أكثر من 7.4 مليون طفل في السودان لا يستطيعون الحصول على مياه الشرب الآمنة، والحاجات الضرورية للغاية للبقاء على قيد الحياة والازدهار، وهناك ما يقرب من مليوني طفل في حاجة ماسة إلى لقاحات منقذة للحياة، لحمايتهم من الأمراض التي تهدد حياتهم”. 

ويعاني أكثر من 3 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، مما يجعل السودان يسجل أحد أعلى معدلات سوء التغذية في العالم، ومن بين هؤلاء، هناك 700 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، مما يعني أنهم إذا لم يحصلوا على العلاج الطبي المنقذ للحياة، فسوف يموتون. 

وعندما سألنا بلسم عن وضع هؤلاء الأطفال التعليمي، وهل هناك مدارس يرتادونها اليوم؟ نفت ذلك مشيرة إلى أنهم “منذ عام توقفوا بشكل كامل عن الدراسة”.

واليوم هناك 19 مليون طفل في سن الدراسة، لا يذهبون إلى الفصول الدراسية، مما  يجعل السودان واحداً من البلدان التي تمر بأسوأ أزمات التعليم في العالم.

“تركيبتهم النفسية اختلفت هم حزينون بشكل دائم” بهذه الكلمات وصفت بلسم الأطفال في عائلتها، لكن ليس الأطفال وحدهم من يواجه مصاعب نفسية، حتى الكبار أيضاً، ومنهم بلسم التي تقول إنها تمر بحالة اكتئاب حاد “نحن عالقون في بئر لا نعرف متى سوف نخرج منه”، وتتابع “لا أعرف كيف أتصرف، ولا أستطيع الانفصال عن أسرتي الصغيرة ولا الكبيرة، أشعر بأنني في معضلة حقيقية، ولا أعرف ماذا ينتظرنا، ولا نعرف كيف يمر يومنا”، ولا تعتبر بلسم التهريب إلى إحدى الدول المجاورة حلاً مناسباً “هذا خيار مرفوض تماماً، في حال قررت الرحيل سأرحل بشكل نظامي”.

الخوف الذي يراود بلسم ومعظم النازحين، هو الخوف على الحياة، وأن تقع هذه المدينة في قبضة قوات الدعم السريع، ولكن الخوف الأكبر بالنسبة لها هو من عدم الخروج من هذه المرحلة، والأهم من ذلك، تسأل: “هل سننجو؟ أنا لم أنهر بشكل كامل، ولكنني أخاف ألا أخرج من هذه المرحلة”، تختتم بلسم حديثها معنا.