العودة من الموت

ممتاز" وطفلتها ناجيتان من مذبحة ميانمار" 

في القرية: عائلة بسيطة وسعيدة

قبل 30 أغسطس/2017

هذه ممتاز ربّة منزل وأم لأربعة أطفال بينهم فتاة وحيدة اسمها روجيا.

زوج ممتاز يعمل حطاباً ومزارعاً في قريتهم التي يعيشون فيها، قرية تولاثولي ، وهي من قرى أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار.

قبل أن تتابع ممتاز سردها تفاصيل هذا الجزء الجميل من حياتها، أدارت لنا خدّها الأيسر، يبدو أن هناك أمر يؤرقها في جانب وجهها الأيمن لم تكن تريد إظهاره، ربما!! لم نلحّ عليها بالاستفسار عن السبب. فقد وعدتنا أنّها ستكشف لنا كلّ شيء لاحقاً.

إذاً، كانوا عائلة مكوّنة من 6 أفراد، الأم والأب عاهدوا نفسيهما بأن يكرّسا حياتيهما وكل ما يجنيانه من مال في تحسين حياة أطفالهما وتأمين مستقبل جيد لهم، الأطفال أولوية قبل أي شيء . هكذا كان العهد

 الحياة في قريتهم لا تختلف كثيراً عن حياة القرويين في القرى المجاورة، يعيشون في أكواخ مصنوعة من الخيزران مسقوفة بالقش، محاطين بأراضي الأرز والأشجار الكبيرة موجودة في كل مكان.

ومن موقع ليس ببعيد من كوخ ممتاز يتدفق نهر ناف سريعاً، هناك حيث يجد الأطفال فسحة لعب لهم يصنعون من الرمال قلاعاً ومنازل ويفضّلون عدم الاقتراب أو السباحة في النهر كي لا يجرفهم التيار بعيداً.

يتبادلون فيما بينهم قصصاً عن أجدادهم الروهينغا الذين انتهى بهم المطاف غرقاً في النهر، فعلى مدى العشرين سنة الماضية كان هذا النهر مسرحاً لحوادث وموجات نزوح واشتباكات أزهقت أرواح الكثيرين من الروهينغا.

لكن رغم كلّ شيء هم لا يخافون النهر، سيبنون سفينة يوماً، كان ذلك حلم أحد أطفال ممتاز ذي الـ11 عاماً، سفينة كبيرة يتجولون العالم فيها، دون أن يسألهم أحد ما جنسيتكم وأين جواز سفركم، فحكومة بلادهم حرمتهم من الحصول من الجنسية، لأن الروهينغا بالنسبة لها مهاجرين غير قانونيين من بنغلاديش.

لكن ما لم يكن في حسبان أطفال ممتاز أنه على بعد 6 كيلومترات من هذا النهر ستكون محطتهم التالية في مخيم كوكس بازار في بنغلاديش، أو بالأصح  هناك سيكون منزل شقيقتهم روجيا الجديد، روجيا فقط دون إخوتها الثلاثة!

في القرية: يوم المذبحة

يوم 30 أغسطس/ 2017

ليل 29 أغسطس كان طويلاً رطباً بشكل لا يطاق، فعلى عكس أيام أغسطس الماطرة لم تذرف السماء قطرة في ذلك اليوم، ورغم حالة الضيق التي اعترت ممتاز بسبب حرارة الجو ذلك اليوم لكنها ستدرك لاحقاً أن جفاف التربة كان سبباً في إنقاذ الكثيرين من موت محتم!

في تلك الليلة بدأت الشائعات تتردد في أنحاء القرية عن وصول قرابة 90 عنصراً من جيش ميانمار ومحاصرتهم القرية، بعد إحراقهم عدد من القرى المجاورة.

يبدو أن أحداثاً شبيهة بما حصل في أكتوبر 2016 تتكرر مجدداً، هجمات من قبل مسلحين روهينغا على مراكز للشرطة يسفر عن مقتل عدد من العناصر، يتبعه حالة استنفار من جيش ميانمار بأكمله للانتقام!

في صباح يوم الأربعاء 30 أغسطس العام 2017 "انطفأت كلّ الأنوار وتحوّل عالمي إلى مساحة سوداء مظلمة" تقول ممتاز.

لم يهاجم الجيش قريتها فحسب، بل هاجم كل تفصيل من تفاصيل حياتها، الفسحة التي تعلّم فيها أطفالها المشي، الشجرة التي كانوا يجلسون بقربها عندما نطق طفلها لأول مرة كلمة "ماما"، وجوه جيرانها البشوشة، صدى صوت زوجها وهو ينادي من بعيد على أطفاله ينبههم أنه عاد إلى المنزل بعد يوم عمل طويل.

في ذاك الصباح وبعد أن اندلعت الحرائق في أكواخ سكان الروهينغا، تم جرّهم نحو شاطئ النهر، تقول ممتاز "لا أستطيع وصف الخوف الذي شعرنا به في تلك اللحظات، كنت أمسك أطفالي الأربعة، عندما فصلوني عن زوجي".

تمّ جمع رجال القرية، اصطفوا جنباً إلى جنب!

من حاول الهروب تم رميه بالرصاص، ومن استطاع الهرب انتهى به الأمر غرقاً في النهر، ولكن المجموعة التي هربت نحو التلال استطاعت  النجاة بحياتها بعد أيام من المشي باتجاه بنغلاديش.

لكن لم يكن منهم زوج ممتاز!

فقد قتلوه أمام عينيها وعلى مرأى أطفالها، تقول "لقد قطعوا رقاب الرجال ثم أطلقوا النيران عليهم ووضعوهم في مقابر جماعية تم إشعالها في وقت لاحق لحرق الجثث".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ تتابع ممتاز "كنت أحضن أطفالي في تلك اللحظة يعتصرني ألم كبير على زوجي وعلى أهل قريتي، لم أكن قد استوعبت بعد ما حصل عندما اقترب مني أحد عناصر الجيش وأخذ اثنين من أطفالي".

رمقتنا ممتاز بنظرة تكاد تكون نفسها في عيون كل شخص في مخيم كوكس بازار، مخيم الناجون من المجزرة، نظرة الحزن حدّ الغضب!

تقول "قاموا بقطع رأسيهما، طفلين جميلين كانا يستغيثان بي لإنقاذهما لن أنسى نظرات الرعب التي اعتلت وجهيهما".

وسط حالة الصراخ والألم ورائحة الموت القوية التي امتزجت بدخان المنازل المحترقة، أمسكت ممتاز يد طفلتها روجيا ويد طفلها الأخير، تحاول أن تتمالك نفسها كي تضع خطة الهرب بهما من موت محتم.

لكنها لم تنجح!

فقد تعرّض طفلها الصغير الذي لم يتجاوز الحادية عشر من عمره للضرب، ثم قتلته نيران البنادق، وهو الآخر رمي في المقبرة الجماعية، "نعم، جميع أفراد عائلتي كانوا في ذلك في القبر".

ليس أفراد عائلتها فقط، بل أكثر من 6700 من الروهينغا قتلوا  في تلك المذبحة بحسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود. بما في ذلك ما لا يقل عن 730 طفلاً دون سن الخامسة

صور الأقمار الصناعية قبل وبعد في إحدى القرى التي تعرضت للهجوم © 2018 DigitalGlobe

صور الأقمار الصناعية قبل وبعد في إحدى القرى التي تعرضت للهجوم© 2018 DigitalGlobe

في القرية: ما بين الحياة والموت

لا وقت للاستسلام ولا للبكاء سنؤجل الحزن بعد النجاة بحياتنا، هكذا حسمت ممتاز خيارها عندما نظرت إلى عيني طفلتها الصغيرة الخائفة، يديها ترتجفان رغم حرارة الطقس التي تقارب الثلاثين درجة.

بدأ الجيش بتقسيم نساء القرية إلى مجموعات وكل مجموعة تضم 5 سيدات من الروهينغا، رافقت ممتاز في مجموعتها والدتها وطفلتها وتم اقتياده من قبل 10 عناصر من الجيش إلى أحد أكواخ القرية.

تقول ممتاز "قاموا بعملية اغتصاب جماعية و ضربونا بوحشية، جرحوا بطني وقطعوا عنق والدتي، كنت أسمع صوت طفلتي وهي تصرخ بهم كي يتوقفوا لكنهم ضربوها".

وقبل مغادرة العناصر ذلك المنزل سكبوا الكيروسين في كل مكان وعلى أجساد النساء و أشعلوها بعود الثقاب "اشتعلت النيران من كل صوب، وعالمي تحوّل إلى ظلمة كاملة".

فقدت ممتاز وعيها للحظات، بينما كانت روجيا تصرخ وتنادي عليها كي تستيقظ "أرجوك أمي اسيتقظي، نحن في خطر، يجب أن نغادر هذا المكان".

روجيا ذات السبع سنوات أنقذت والدتها، كسرت إحدى جدران المنزل المصنوعة من البامبو وهربت مع والدتها.

"كنا الناجيتان الوحيدتان" تقول ممتاز!

"لا أعرف كم من الوقت بقينا نائمين، ربما دقائق وربما ساعات لكن ذلك لم يكن مهماً لأنني في تلك اللحظات أدركت أن لا قيمة للوقت بعدما حصل أنا اليوم جسد بلا روح".

استيقظت الأم على أصوات بعض القرويين الذين أخبروهما بضرورة مغادرة المنطقة، صنعوا من أغصان البامبو وقطع القماش حمّالة وضعوا عليها ممتاز وروجيا وتوجهوا بهما نحو قارب قريب من الغابة.

"ركبنا القارب، ورحلنا باتجاه بنغلاديش، تراودني مشاعر أنني متّ أيضاً لألحق بزوجي وأطفالي الثلاثة". تقول ممتاز.

ما أن وصل القارب بنغلاديش، حتى بدأت روجيا التسول من أجل المال كي تنقل والدتها التي من الحروق إلى المستشفى، ومن هناك تمّ نقلهم إلى مخيم كوكس بازار أكبر مخيم للاجئين في العالم أكثر من نصف قاطنيه أطفال!

فليرى العالم جسدي المحروق، هذه أجساد أمهات الروهينغا وقلوبنا المحروقة!

كانت روجيا تلعب بشعر والدتها القصير لتخفف عنها حزنها وهي تروي لنا ممتاز رحلتها القاسية التي أوصلتها إلى هذا الملاذ الصغير المصنوع من البامبو والمغطى بالبلاستيك الأسود المضاد للماء، وسط مخيم كوكس بازار.كان الجو خانقاً بالداخل، في زاوية واضحة يوجد مرحاض مؤقت، وفي زاوية أخرى وضعت روجيا قدراً، "إنها تعدّ الأرز كي نأكل" تقول ممتاز "ينفطر قلبي كلما نظرت إليها، هذه الطفلة الصغيرة الشجاعة نضجت بسرعة"

قبل أن نودّع ممتاز، أدارت لنا وجهها لنرى الجانب الأيمن منه كما وعدت، لقد كان يعاني من حروق وتشوهات واضحة تمتد من أعلى رأسها حتى رقبتها، وبحسب وصفها جسدها كلها يعاني من حروق شبيهة بهذه.

تقول " أريد أن يرى العالم جسدي المحروق لأن هناك الآلاف من النساء اللواتي مررن بنفس التجربة، لكن لا أحد يعرف قصصهن".

تضيف " كل يوم حين أرى الأطفال في المخيم، أتذكر أطفالي. أشتاق إليهم كثيرً، كانوا حياتي، أشتاق لزوجي أيضاً. أشعر بأنني افقد عقلي. لم أعد أعرف ماذا يحدث حولي، أطالب بالعدالة لزوجي، لعائلتي، ولأمتي".

أنا على قيد الحياة اليوم لأنني أريد العدالة، أنا هنا من أجل ابنتي!

قرية تحوّلت إلى رماد


قام جيش ميانمار بتدمير ما لا يقل عن 288 قرية جزئياً أو كلياً وحرقها في ولاية راخين الشمالية بعد أغسطس / آب 2017 ، منهم قرية ممتاز، وفقاً لتحليل صور الأقمار الصناعية من قبل هيومن رايتس ووتش.

وقتل ما لا يقل عن 6700 بحسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود، بما في ذلك ما لا يقل عن 730 طفلاً دون سن الخامسة..



جولة داخل ملجأ روجيا وممتاز

Item 1 of 2
Item 1 of 2