كنت وأصبحت
أيادي صغيرة وأعباء ثقيلة : حياة طفل في موقع البناء

كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجراً عندما التقينا بالطفل عيسى في منزلهم الريفي البسيط بمنطقة الكرامة في ريف الرقة. نسمات الهواء الباردة كانت تلسع وجوهنا، فيما كان عيسى قد أنهى لتوه طعام الإفطار مع إخوته ووالده. كان يرتدي قميصاً أحمر اللون وقد أضاف إليه سترة قطنية خفيفة تقيه برودة الصباح.
"هل أنت متعب؟" سأله والده.
رغم أن كل علامات التعب كانت بادية على وجهه، ابتسم عيسى ابتسامة خجولة وهز رأسه نافياً. فسأله والده مرة أخرى: "هل أنت متعب؟ إذا كنت تشعر بالتعب، يمكنك البقاء في المنزل اليوم." فأجابه عيسى: "نعم، أشعر بالتعب، لكنني سأذهب للعمل."
وانطلقنا جميعاً باتجاه موقع العمل، حيث كان عيسى، أصغر إخوته الثلاثة، ووالده الذي قاد سيارة البيك آب يتجول في القرية لجمع عدد من العمال الذين اتفق معهم مسبقاً لإيصالهم إلى مدينة الرقة. تبعد المدينة عنهم مسافة نصف ساعة تقريباً، أي ما يقارب 29 كيلومتراً.
المسافة التي يقطعها يوميا عيسى من منزله لمكان العمل
المسافة التي يقطعها يوميا عيسى من منزله لمكان العمل
كان عيسى يرتعش من البرد، عيناه معلقتان على الطريق منتظراً أن يقف والده ليقل العمال الآخرين، فهو يعرف أنه ما أن يجتمع العمال جميعاً سيشعر بالدفء يقول لنا "هذا الشادر "القماش الذي يغطي الشاحنة من الخلف" يمنع نوعاً ما البرد عنا، لكن مع ركوب الجميع سيصبح الجو حاراً هنا نلتف حول بعضنا البعض كي نشعر بالدفء".
الطفل الذي بدأ العمل منذ كان في العاشرة من عمره لا تربطه بالمدرسة أي علاقة، فلم يرتادها سوى لعامين. وحين سألناه: 'هل تشتاق إلى العودة إليها؟' أجابنا بالنفي، مؤكداً: "عندما أشاهد أطفالاً يذهبون إلى المدرسة، لا أشعر برغبة. لا أريد المدرسة ولا أحب الكتب ولا الحقائب.'"
لا يزال الأطفال في الرقة، شمال شرق سوريا، يعيشون بين الأنقاض، مع محدودية المياه والكهرباء والوصول إلى التعليم، وذلك بعد سنوات من انتزاع المدينة من داعش في عام 2017، وكان قد عاد الآلاف من الأشخاص أو انتقلوا إلى الرقة منذ انتهاء المعركة، ويقدر وجود 270 ألفًا إلى 330 ألف شخص يعيشون هناك حاليًا مع العلم أن الحرب في بلادهم لم تنته وتدخل قريباً عامها الرابع عشر.


في موقع العمل: الأيادي تروي الحقيقة كاملة

كان هناك حوالي ستة أطفال في موقع البناء الذي وصلنا إليه في أحد أحياء مدينة الرقة، أكبرهم لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وأصغرهم عيسى.
يبدو أنهم وصلوا إلى المراحل الأخيرة من إتمام هذا البناء، أمضينا اليوم معهم على سطح المبنى، حيث كانوا يقطعون الحديد ويقيسونه ويرصّونه.
يعملون لساعات طويلة في ظروف شاقة، يصعدون الطوابق حاملين الحديد، هذا المعدن الذي ترك أثره واضحاً على كفّي عيسى، يداه سوداوين ومتشققتان من العمل الذي بدأه منذ كان في العاشرة من عمره.
يرعب الحديد قلب هذا الطفل، خاصة عند حمله من الطوابق السفلى إلى الطوابق العليا، يجب أن يمسكه بإحكام واتزان كي لا يقع ويسحبه معه. يوضح لنا بقوله: "أكثر ما أخاف منه هو أن يتحرك سيخ الحديد في البناء العالي ويسحبني معه فنسقط".
ويضيف: "لكنني لا أجد هذا العمل خطيراً، فقد أصبحت خبيراً فيه."
حاولنا أن نعرف من عيسى ما هي التدابير الوقائية التي يتخذها لحماية نفسه، فأخبرنا أنه يضع خوذة على رأسه، لكننا لم نجدها معه حين قابلناه. فوضح لنا أنه عادة ما يرتديها، لكنه "نسي خوذته في المنزل اليوم".
صورة شاركها معنا عيسى
صورة شاركها معنا عيسى
لا توجد إحصائية عن عدد الأطفال الذين فقدوا حياتهم بسبب العمل، سواء في مواقع البناء أو غيرها، توجهنا بهذا السؤال إلى جلاء حمزاوي، مديرة نادي مرضى أطفال السكري والمهتمة بقضايا الأطفال، موضحة أنهم كثيراً ما يسمعون عن سقوط أطفال من الطوابق العليا للأبنية، أو سقوط حجارة عليهم مما يؤدي إلى بتر أطرافهم أو أصابعهم.
وتضيف حمزاوي: "إن انخراط الأطفال في أعمال خطيرة، وخاصة في المناطق الصناعية، قد يؤدي إلى انفجار برميل فيهم. حتى الأطفال الذين يبيعون المحارم في الطرقات معرضون للخطر، خاصة في ساعات الذروة، وقد يتعرضون للدهس."
جلاء حمزاوي
جلاء حمزاوي
"فكل المهن خطيرة على الأطفال مهما اختلفت طبيعتها وأينما كانت، وكلها لا تليق بطفولة هؤلاء العمال الصغار"، تقول حمزاوي. وتضيف: "من الحوادث التي أثرت بي ولا أكاد أنساها ما تعرض له طفل صغير أثناء توصيل طلب على دراجته الهوائية، حيث وقع في حفرة كبيرة ما أدى إلى كسر في العمود الفقري والرقبة، وبالتالي شلله الكامل، هذا الوضع مؤلم للغاية."
وفي استطلاع قامت به في وقت سابق منظمة إنقاذ الطفولة فقد لجأ حوالي ٨٠٪ من الأسر في الرقة التي شملها الاستطلاع إلى تدابير يائسة مثل شراء الطعام بالدين وإخراج أطفالهم من المدرسة للعمل من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية.
الطفل العامل: ينجز المهمة بسرعة ولا يتذمر وأجره أقل

يلف عيسى خصره بأسلاك حديدية ويحمل بيديه قاطعة ومتر قياس؛ هذه هي الأدوات التي يستخدمها منذ كان في العاشرة من عمره، مشاركاً في بناء المنازل بشمال شرق سوريا.
عيسى يحب الغناء، سمعناه يدندن أغنية بينما كان يقيس الحديد ويقطعه. طلبنا منه أن يغني لنا مقطعاً منها، فشعر بالخجل في البداية، لكنه وافق في النهاية. صوته جميل!
وبينما كنا نستمع إليه، جاء أبو إبراهيم، المسؤول عن الورشة، فكانت فرصة لنا للدردشة معه حول الأطفال العاملين هنا وأسباب اختيارهم لهذا العمل.
أبو إبراهيم
أبو إبراهيم
"أغلب الأطفال أصبحوا يعملون بعد الحرب، كل حسب أوضاعهم المعيشية ومتطلبات الحياة" يقول أبو إبراهيم "الوضع اختلف عما كان عليه، فهناك أطفال فقدوا آباءهم، ولكل طفل ظروفه الخاصة التي أجبرته على العمل".
ورغم أن أبو إبراهيم وهو أب لأربعة أطفال ضد عمل أطفاله وعمل الأطفال بشكل عام فإنه يوضح أن وجود هؤلاء الأطفال في هذه الورشة التي يديرها هو "بدافع مساعدتهم مادياً" بحسب قوله.
فالأطفال عرضة للمخاطر بشكل أكبر من الكبار، وهذا الأمر يدركه أبو إبراهيم، الذي يقول إنه لم تقع حوادث خطيرة في ورشته هذه، لكنه سمع عن حوادث حصلت في ورشات أخرى. ويضيف: يتعرض الأطفال لجروح خلال حملهم الحديد، أو قد يسهو أحد الأطفال خلال نزول الدرج وهو يتفرج على أطفال يلعبون، فيسقط وتنكسر قدمه. لكن الأطفال هنا لم يتعرضوا لأي حادث."
سألناه "ما الذي يميز عيسى عن غيره؟"، فأجاب "عيسى طفل والطفل لا يتذمر وينفذ ما يطلب منه مباشرة وبسرعة".
وبالنسبة للأجور التي يتم دفعها للأطفال أوضح لنا أن أجورهم تقل عن أجور العمال الكبار مبرراً ذلك بقوله "إنتاجية الطفل لا تقارن بإنتاجية الكبير لذلك ستكون أجورهم أقل".
وبحسب تقرير للبنك الدولي تعتبر الرقة إلى جانب مدن في شمالي شرقي سوريا الأعلى انتشاراً لمعدلات الفقر، مع العلم أنه في عام 2022، طال الفقر 69% من السكان، أي نحو 14.5 مليون سوري. وعلى الرغم من عدم وجود الفقر المدقع فعلياً قبل اندلاع الصراع، لكنه طال أكثر من واحد من كل أربعة سوريين في عام 2022.
بينما أشارت الأمم المتحدة في وقت سابق أن ٩٠٪ من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
ومنهم عيسى وعائلته.



يعمل عيسى قرابة 66 ساعة أسبوعياً موزعة على 6 أيام، حيث يعتبر يوم الجمعة يوم العطلة الوحيد له، ويتقاضى مقابل ذلك أجراً يومياً يتراوح بين دولارين وثلاثة دولارات."
وبمقارنة بسيطة بين ما يتقاضاه عيسى مقابل عمله وما يحصل عليه العاملون في مجال البناء في دول أخرى، نجد فارقاً شاسعاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السن القانوني للعمل يختلف، حيث تكون القوانين أكثر صرامة بشأن عمالة الأطفال في بلدان عديدة.
فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يبلغ متوسط الحد الأدنى لأجر عامل البناء حوالي 15 دولاراً في الساعة. وبالعمل لمدة 8 ساعات يومياً، يمكن لعامل البناء أن يكسب نحو 120 دولاراً يومياً، أي ما يعادل 40 إلى 60 ضعف ما يجنيه عيسى.
أما في أوروبا ، مثل ألمانيا، فقد يصل أجر عامل البناء إلى ما بين 12 و20 يورو في الساعة (حوالي 13 إلى 22 دولاراً أمريكياً). ولعمل يومي يمتد لـ8 ساعات، يعادل ذلك 104 إلى 176 دولاراً، أي حوالي 58 ضعف ما يكسبه عيسى."
أخبرنا عيسى قبل إحضاره للطعام أن هذه هي الفترة الوحيدة خلال يوم العمل، الذي يستغرق قرابة 11 ساعة، التي يستطيعون فيها الاستراحة، حتى وإن شعر بالتعب، فلا مجال للتوقف، فاستراحة الطعام هي الفرصة الوحيدة لالتقاط الأنفاس.
اليوم جلب لهم أقراص فلافل مع الخبز والبندورة، قاموا بتقطيع البندورة ووضعها مع الفلافل في الخبز وتناولوا وجبتهم.
كل ما يشغل عيسى الآن هو أن ينهي عمله ويعود إلى منزله، فغداً يوم الجمعة، يوم الراحة الوحيد الذي يستطيع فيه أن يلتقي بأصدقائه ويلعب معهم ويشاهد برامج الكرتون.
يأمل دائماً أن ينتهي العمل باكراً ليتمكن من اللعب، لكن غالباً لا يتحقق ذلك، خاصةً أن رحلة العودة للمنزل ليست سهلة، ففي كثير من الأيام، لا يستطيع والده القدوم لنقلهم بسبب عمله في الأرض، فيضطر عيسى وإخوته إلى استخدام المواصلات العامة، مما يجعل وقت العودة طويلاً حتى تغيب أن الشمس تماماً قبل وصولهم.




لدى عيسى أصدقاء يعملون، وآخرون يرتادون المدرسة. بعضهم يعرفهم من موقع العمل، وآخرون من الحي الذي يسكن فيه.
أقربهم إليه هو سامي، الذي أهداه هذا الخاتم، سامي يعمل مع عيسى في البناء أيضاً، ولا يرتاد المدرسة مثله.
في المنطقة، يرى معظم الأهالي أن مستوى التعليم ليس جيدًا، ويفضلون إرسال الأطفال للعمل وتعلم مهنة تفيدهم أكثر، خاصةً وأن أكثر من 80٪ من المدارس ما زالت مدمرة.
في جميع أنحاء سوريا، هناك حوالي 2.4 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا خارج المدرسة. وهم يمثلون ما يقرب من نصف حوالي 5.52 مليون طفل في سن المدرسة.
لم تعد واحدة من كل ثلاث مدارس في سوريا تستخدم لأغراض تعليمية. لقد تم تدميرها أو إتلافها، ولا تزال تؤوي أسرًا نازحة أو يتم استخدامها لأغراض عسكرية. كما أن انخفاض عدد المدارس التي تم إعادة تأهيلها يعيق وصول الأطفال إلى التعلم. أصبحت الفصول الدراسية مكتظة وغادر عشرات الآلاف من المعلمين وغيرهم من العاملين في مجال التعليم البلاد.
من يملك المال يعايرني بعمل أطفالي… وهذا يوجعني بشدة

انتهى يوم العمل الطويل، وعاد عيسى إلى منزله، لكنه لم يجد والده الذي لا يزال في الأرض الزراعية، حيث يقضي هو الآخر يومه في العمل.
استحم عيسى وبدل ملابس العمل، ثم جلس يتفرج على التلفزيون، يشاهد قناة سبيس تون للأطفال، وهو ينتظر عودة والده ليتناولوا العشاء جميعاً. كان عيسى يتوق إلى تلك اللحظات العائلية.
اعتاد هذا الطفل الصغير أن ينام في الساعة الثامنة ليلاً، فبعد يوم شاق، لم يكن جسده الضئيل ليحتمل الصمود لأكثر من ذلك.
عندما عاد والده إلى المنزل، بدأ يحكي لنا عن تجربته السابقة في مجال الحديد، حيث كان يعمل في ظروف قاسية، تحدث عن كيفية عمل أبنائه في هذا المجال اليوم، لكنه أشار إلى أنه اضطر للتوقف عن هذا العمل لما عاناه من أضرار جسدية بليغة. فقد أصبح غير قادر على حمل الأوزان الثقيلة، مما دفعه للانتقال إلى الزراعة، التي تعتبر أقل مشقة وتتيح له الاستمرار في العمل.
بالنسبة له، لو كانت الظروف المالية أفضل، لما اضطر لإرسال أولاده للعمل، فقد كان يشعر بالقلق من أن الصغار منهم يشعرون بالتململ تجاه ذلك، بينما لم يكن لدى الكبار أي مانع. يقول عبد الرزاق، والد عيسى: "أتمنى أن أتمكن من توفير حياة أفضل لهم، بعيدًا عن العمل في ظروف صعبة."
ويضيف: "نعمل جميعًا لتأمين لقمة عيشنا، فالوضع المادي في المنطقة صعب للغاية."
يتلقى والد عيسى بين الحين والآخر انتقادات من بعض الأشخاص الذين يصفهم بالمقتدرين مادياً، والذين يقولون له إنهم لا يسمحون لأطفالهم بالعمل كما يفعل هو. ويضيف عبد الرزاق: "هذا الأمر يوجعني بشدة، فكل واحد منا يواجه ظروفه الخاصة."
ورغم أن عمالة الأطفال غير قانونية في سوريا، ولكن تطبيق القانون أمر صعب بسبب الصراع المستمر وعدم الاستقرار الاقتصادي.
وفقًا لقوانين العمل السورية، فإن الحد الأدنى لسن العمل هو 15 عامًا للأعمال غير الخطرة و18 عامًا للأعمال الخطرة، والتي تشمل قطاعات مثل البناء. ومع ذلك، مع ارتفاع معدلات الفقر، تعتمد العديد من الأسر على الدخل من أطفالها، وغالبًا ما يكون تطبيق هذه القوانين محدودًا.
هذا الأمر لم يكن يعلم به عبدالرزاق عندما أخبرناه به، حيث قال: "لا أعلم إن كان ما نقوم به مخالفًا للقانون، لكنني بالتأكيد أدرك خطورته وأشعر بالخوف الدائم على أطفالي."
وأضاف: "أتذكر مرة في إحدى الورشات، حيث جاءت منظمة لرعاية الأطفال وصورت الأطفال الذين يعملون، أخبرونا أن هؤلاء الأطفال لا ينبغي عليهم العمل هنا وأنهم سيعودون لمتابعة حالاتهم، لكننا لم نرَ أحدًا منهم مرة أخرى."
أمنية والد عيسى أن تتحسن أوضاعهم المادية ويتوقف أطفاله عن العمل، رغم أنه يشعر بعدم تفاؤل حيال تحقيق ذلك.
لكن أمنية عيسى هي أن يتوقف عن العمل في مجال البناء، وأن يحقق أحلامه بتأسيس فرن يبيع فيه الكعك والبسكويت. يحلم أيضًا بأن يعمر منزلاً خاصًا له ولعائلته، حيث يشعرون بالراحة والاستقرار.
لكن أمنية عيسى هي أن يتوقف عن العمل في مجال البناء، وأن يحقق أحلامه بتأسيس فرن يبيع فيه الكعك والبسكويت. يحلم أيضًا بأن يعمر منزلاً خاصًا له ولعائلته، حيث يشعرون بالراحة والاستقرار.


