مكب النفايات
يديره أطفال، وتحكمه قوانين مختلفة تماماً
أنت ترمي قمامتك مجاناً، وهم يحصلون على المال مقابل جمعها وبيعها، باختصار في هذا المجتمع قوانين تحكمه تحت شعار النقود مقابل القمامة.
الأطفال، هم اليد العاملة هنا
ثلاثون طفلاً ينتشرون على مد النظر
لكل قانونه في "لعبة البحث" هذه
خلال دقائق ومع إشراق الشمس يتحول هذا المكب المهجور إلى أكثر المناطق ازدحاماً في الشمال السوري وتحديداً في مدينة الباب.
هذا المشهد الرمادي، سيبدأ رويداً رويداً باكتساب ألوان مختلفة لمجرد انتشار الأطفال داخله.
يبدأ قرابة 30 طفل يومياً رحلة البحث عن الألمنيوم والبلاستيك والنحاس، كنزهم المتشح بالأوساخ تماماً كملابسهم.
يحمل كلاً منهم معولاً او قطعة حديدية معقوفة، منهم من قام بتغطية وجهه بقطعة قماش ولكن أغلبهم رفضوا ارتداءها، فهي تمنعهم عن الكلام مع أصدقائهم خلال "لعبة البحث" داخل القمامة.
سعيد/ 10 أعوام هو أحد الأطفال العاملين في مكب نفايات الباب، يلتقي مع صديقيه عند خيمته صباحاً وينطلقون للعمل.
منازلهم ليست بعيدة عن المكب، بل هي قريبة جداً، فقد نصبت عائلاتهم خيماً قرب المكب.
يقطن بالقرب من المكب 40 شخصاً نزحوا من ريف حلب الشرقي والجنوبي، نصبوا قرابة 10 خيم هناك.
بالنسبة لهم فإن هذا المكان بمثابة المأوى بعدما خسروا كل شيء بسبب الحرب الدائرة في البلاد.
ولكن الأهم من ذلك مصدر رزق يديرونه على طريقتهم.
هل تشم الرائحة؟
إذاً! وصلت إلى أكبر مكب نفايات في شمالي سوريا
كان المكب الذي يقع حالياً تحت سيطرة المعارضة السورية عبارة عن أرض حكومية تابعة للنظام السوري.
ولكن مع الزمن تحولت هذه الأرض التي تبلغ مساحتها نحو واحد كيلو متر مربع إلى مكب نفايات لعدم صلاحيتها للزراعة.
من ينظر نحو هذه المساحة الشاسعة يصعب عليه تحديد حجمها، لأنها تتتلاشى في الأفق وكأن لا نهاية لها، أكوام وتلال من القمامة على مد النظر ورائحة كريهة تملأ المكان.
الرائحة التي سوف تكشف لك اقترابك إلى المكب حتى لو كنت على بعد عشرات الكيلومترات عنه.
لوهلة سوف تشعر أن هذه الرائحة التي اخترقت فتحتي أنفك لن تغادرها، فهي واخزة قوية.
النازحون هنا وجدوا حلاً لهذه الرائحة، وهو بنصب الخيام في الجهة الغربية من المكب وفي شماله بحيث يقوم الهواء بدفع الرائحة بالاتجاه المعاكس عن خيامهم.
تزداد كمية القمامة التي تصل إلى المكب يوماً بعد يوم فهي مركز نفايات لكل من"مدينة الباب، الراعي والقرى المجاورة بهما مثل أخترين وسوسنباط والنعمان وسوسيان وعولان وحزوان" وكل هذه المناطق تقبع تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية.
ومن تلك المناطق تنطلق شاحنات القمامة، لترمي حمولتها في هذا المكب، حيث ينتظرها الأطفال.
الأوفر حظاً من الأطفال
من يجد "النحاس"، فهو الأغلى ثمناً
شارفت الساعة الثانية عشر ظهراً، أي مضى على عمل سعيد أكثر من ست ساعات، ولم يجد ما يمكنه بيعه.
كان يبدو مشتت الذهن عيناه تنظران نحو الطريق العام، وما إن لمح شاحنة زرقاء كبيرة حتى بدأ الصبي بالهرولة نحوها.
لم يكن وحده، بل كل الأطفال العاملين في المكب اجتمعوا عند هذه الشاحنة.
كلما زادت كمية النفايات، زاد الربح!
سألناه "من أي منطقة جاءت شاحنة القمامة هذه".
ودون حتى أن يلتفت نحونا أجاب "لا يهم، المهم أن أجد ما يمكنني بيعه آخر النهار".
وبالفعل حالفه الحظ، فقد وجد وأصدقاؤه قطعاً معدنية ونحاسية قابلة للبيع.
يقدًر سعيد ثمنها بنحو 500 ليرة سورية، أي أقل من دولارين.
تعتبر قطع الفولاذ والنحاس الصافي هي الأغلى ثمناً، وتحدث بعض العاملين هناك عن قطع ثمينة وجدوها كحجر أثري مرمي بين القمامة.
وفي كثير من الأوقات يعود سعيد فارغ اليدين، مكتفياً بقطعة ملابس بالية أو دمية.
ولكن اللافت في ذلك المكان تحويل الأطفال مخلفات الآخرين إلى أشياء يلهون بها، تماماً كالسيارة الحمراء هذه.
يركبونها ويبدأون رحلتهم إلى عالمهم الخاص، ولكل منهم دوره في قيادة هيكل السيارة هذه، وللسائق الحق في فرض الشروط التي يريد على الركاب واختيار المكان الذي يحب.
لينطلق في رحلته الخيالية ترافقه ضحكات أصدقائه.
سألناهم، "هل تذهبون إلى المدرسة؟ ورغم معرفتنا بالإجابة مسبقاً، فجاء التأكيد منهم "كلا، منذ نزوحنا إلى هذا المكان توقفنا عن الذهاب إلى المدرسة".
والسبب "عدم وجود مدارس قريبة في المنطقة".
ليس الأطفال وحدهم من تراهم في هذا المكان
بل الأغنام أيضاً حيث ترعى بين القمامة بحثاً عن الطعام
أهلاً بالأغنام، ولكن ممنوع دخول الغرباء
قوانين العمل في المكب
بعد يوم قضيناه مع سعيد، تأكدنا أن العمل هنا ليس عشوائياً، بل ربما هو الشيء الوحيد المنظم ضمن أكوام النفايات والخيم العشوائية المتناثرة هنا وهناك .
ويمكن اختصار قوانين العمل بحسب شهادات العاملين هنا بما يلي:
- لا يرحبون بغريب بينهم، العاملون هنا حصراً من سكان المنطقة.
- أولوية البحث في المكان لمن يصل أولاً.
- لا يحتاج الشخص إلى شهادة حسن سلوك للعمل هنا، ولم يشهد المكان خلافاً بين العاملين في المكب.
- يدير العمل أرباب الأسر، وفي كل عائلة شخص مسؤول عن إدارة عملها.
- لا مزاودة في الأسعار، جميعهم اتفقوا على مبلغ معين مقابل ما يجدونه من أشياء قابلة للبيع، لا أحد يعرض سعراً أرخص من غيره فيؤثر على "سوق البيع هذا".
- الأقوى هو من يعثر على أكبر كمية من النحاس والألمنيوم.
- أما لقطعة القماش التي يضعها البعض قصة أخرى، ولن تدخل ضمن قوانين العمل، لأنها اختيارية رفض سعيد ارتداءها لكنه أخبرنا عن سبب قيام البعض بارتدائها.
لماذا يضعون قطعة قماش على وجوههم؟
سوداء أو حمراء أو خضراء لا يهم لون هذه القطعة، والتي غالباً ما تكون مقصوصة من قطعة ملابس قديمة، وتم تحويلها إلى قناع يوضع على الوجه.
يعتبر ارتداؤها واحداً من الإجراءات التي يتخذها البعض للوقاية من الإصابة باللشمانيا، وبالتالي تمنع عنهم لسعة حشرة صغيرة اسمها ذبابة الرمل.
سألنا سعيد لماذا يرفض وضعها؟ أجابنا أنها تمنعه من الكلام مع أصدقائه وأنه لا يخشى لسعة هذه الحشرة.
وتسبب لسعة هذه الحشرة حبة كبيرة منهم من يسميها حبًة حلب، أو بغداد أو أريحا أو كما يتعارف عليها طبياً ب "اللشمانيا"، وهي العدو الأول للعاملين في جمع القمامة وحتى لكل القاطنين بالقرب من تلك المناطق، فهي تتكاثر وتنشط في أماكن النفايات والصرف الصحي المفتوح.
يومياً، يستقبل مركز الباب الصحي، أقرب مركز لهذا المكب قرابة 30 حالة.
وغالباً ما تظهر أعراض المرض الجلدي الذي تسببه لسعة هذه الحشرة، بعد أسابيع حيث يظهر على الجلد حبوب حمراء صغيرة وكبيرة عليها تقرحات، عادة ما تكبر ولا تلتئم بسرعة، وبعد علاجها تترك أثراً شبيهاً بالتشوه.
وهناك بحسب منظمة الصحة العالمي أكثر من 40.000 حالة جديدة كل عام في إدلب وشمال حماة وريف حلب وحدها ، مما يجعلها واحدة من أكثر المناطق تضرراً في سورية.
وكانت المتحدثة الرسمية في الصليب الأحمر قد أشارت إلى أن الإصابات في العام 2017 وصلت لأكثر من 150 ألف إصابة في سوريا، وفي حلب وحدها أكثر من 50 ألف إصابة.
في عام 2019 ، وبدعم مالي من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ، نفذت منظمة الصحة العالمية وشريكها أحد أوائل مشروعات الوقاية من داء الليشمانيات على نطاق واسع ، حيث وصل إلى حوالي 1.25 مليون شخص في شمال غرب سوريا.
ولكن لم تمنع الإصابة بالأمراض السكان في مكب النفايات هذا، بالتوقف عن عملهم "فالنقود التي يحصلون عليها تتكلم" على حد تعبير أحدهم.
إن نسبة الإصابات بمرض اللشمانيا، ارتفعت 30 % في سوريا نتيجة التهجير والدمار
استراحة...
حان وقت تناول طعام الغداء
ربما هذا هو الوقت الوحيد خلال اليوم، الذي يخلع فيه مرتدو قطعة القماش عن وجوههم، فقد حان موعد تناول طعام الغداء.
رافقنا سعيد إلى خيمته، دخل إليها وعاد حاملاً كيساً بلاستيكياً فيه خبز.
يتناولون الخبز، الكثير من الخبز خلال اليوم كي يتغلبوا على الجوع.
ولا يخدعك دخان النيران المتصاعدة من كل مكان في المكب، فالنيران هنا لا تدل على الطبخ، بل هي إما لحرق القمامة أو للتدفئة.
خاصة أنه لا يوجد في هذه الخيم كهرباء ولا حتى ماء.
أما بالنسبة للأغراض التي يحتاجونها، يقول سعيد إن والده يقوم بشرائها من سوق الباب، مرة كل شهر.
أنهى سعيد تناول الخبز على عجل، حمل قطعة الحديد التي يستخدمها في الحفر، وانطلق فقد شارفت الشمس على الغياب.
والآن بعد هذا اليوم الطويل والعمل الشاق
مع غروب الشمس وصلت أول سيارة من السيارات التي تشتري بضائع الأطفال، أخذ سائقها ينادي باستخدام مكبرات الصوت، منبهاً العاملين للتجمع وبيعه ما جمعوه من أغراض.
يتردد السائق أحمد/ 35 عاماً والقادم من مناطق ريف إدلب على هذا المكب ليشتري من الأطفال "بضاعتهم".
يقول: غالباً ما يعثر الأطفال على عبوات ألمنيوم، وبطاريات، قطع بلاستيكية، نحاس، خبز يابس".
يشتري أحمد كيلو البلاستيك ب 130 ليرة سورية أي ما لا يتجاوز بضعة سنتات، وكيلو النحاس ب 3500 ليرة سورية أي قرابة 12 دولار، أما كيلو الخبز اليابس فيشتريه بمقابل 100 ليرة سورية.
سعيد كان أوفر حظاً من غيره الذين لم يبيعوا شيئاً
وبدوره يقوم ببيع المعادن لمصانع صهر المعادن في مدينة إدلب، أما الخبز اليابس فيبيعه لمحلات الأعلاف.
وقد بلغت حصة سعيد في هذا اليوم 500 ليرة سورية أي أقل من دولارين، كان أوفر حظاً من كثيرين غيره.
يعتبر هذا العمل اختباراً للصبر، فقد ينتهي اليوم دون الحصول على أشياء قابلة للبيع، يعودون للخيم ومشاعر الخيبة تسيطر عليهم على أمل أن يكون اليوم التالي أوفر حظاً.
فذلك لن يوقفهم عن المتابعة في رحلة البحث هذه.
وقبل أن نودع سعيد سألناه "ما هو حلمك عندما تكبر"؟ أجابنا باختصار "حلمي أن يكون لدينا منزل".