أن تعيش مع اللاجئين لا أن تسمع قصصهم فقط
رحلة مع "عائشة" المتطوّعة البحرينية
كانت الساعة الثالثة فجراً عندما وصلت شام إلى الحدود الهنغارية، طفلة في الثامنة من عمرها توقفت عن الكلام بعد مشهد مروّع كانت شاهدة عليه.
تفاصيل تلك القصة التي سمعتها عائشة الشربتي المتطوعة البحرينية من جدّ شام حملتها بجعبتها وأخذت على عاتقها روايتها للعالم، قصة لا تشبه واحدة من القصص الأخرى التي صادفتها عائشة وعاشت تفاصيلها في رحلة بدأتها قبل 7 سنوات مع اللاجئين والمهاجرين.
تلك الرحلة التي اصطحبتنا هذه الشابة البحرينية إلى بعض محطاتها، لنتعرّف على قصص هاربين من الحروب والأزمات والمجاعات.
والمحطة الأولى… كانت شام
الطفلة ذات المعطف الأصفر!
15 أكتوبر. 2015
"لن أنسى هذا التاريخ 15 أكتوبر. 2015"، تقول عائشة!
المشهد نفسه كان يتكرر كل يوم في ذلك العام، تصل إلى الحدود النمساوية مع هنغاريا في ساعات الفجر الأولى، مجموعة من اللاجئين الهاربة من الحروب في بلادها وبشكل خاص من سوريا.
كان الجو بارداً وما يزيد المشهد قساوة تلك الوجوه الشاحبة من البرد وهي تخرج من بين الأشجار بعدما قطعت غابات النمسا القاسية.
كانت عائشة واحدة من متطوعي مفوضية شؤون اللاجئين، تستقبل العابرين بالبطانيات والطعام إلى أن يتم نقلهم لمركز أمن الحدود.
كان سيمر مثل أي يوم قصص موجعة تسمعها تؤرقها كلما خلدت إلى النوم، إلى أن وقعت عيناها على طفلة ذات معطف أصفر.
الطفلة السورية "شام".
تقول عائشة لـ"Tiny Hand" لقد كان "جسدها الضئيل يرتعش من برودة الطقس، يمسك بيدها الصغيرة جدّها، رجل كبير جداً بالعمر كل شيء فيه يدل على ذلك".
شفتاه زرقاوتان من شدة البرد، كان يتلفت يمنةً ويساراً يريد أن يصرخ وأن يتكلم، شعر بالسعادة الكبيرة عندما اكتشف أن عائشة تتحدث اللغة العربية، ليخبرها التفاصيل الكاملة لرحلة الموت التي مرّ بها وابنته وحفيدته شام.
القصة الكاملة لم حصل مع شام في الفيديو كما روتها لنا عائشة:
لكن مالذي أوصل عائشة الشابة البحرينية إلى تلك الحدود؟!
في كل مرة كان يدار فيها التلفاز في منزل عائشة بالكويت، كانت تشعر بالضيق وهي تسمع العناوين بالأخبار التي تتحدث عن السوريين وموجات الهجرة الكبيرة التي تشهدها البلاد.
في البداية كانت تعبّر عما يجول بخاطرها على صفحات السوشال ميديا، ولكنها وصلت إلى لحظة شعرت فيها أن ذلك لا يكفي وبالأحرى أن ما تكتبه لن يساعد ذلك السوري العالق على الحدود الهارب من الحرب في بلاده.
"هنا قررت أن أبدأ رحلة تطوعية الهدف منها مساعدة اللاجئين من خلال الترجمة وتقديم الاستشارات القانونية وما ساعدني على ذلك دراستي في مجال الحقوق، إضافة إلى تقديم المساعدات المادية والعينية، وأية خدمة ستسهل عليه طريق اللجوء الذي يسلكه" تقول عائشة.
يبدو أن كل ذلك بدأ من اختيارها دراسة مجال الحقوق، على عكس رغبة عائلتها التي كانت تشجعها على دراسة الطب، تقول عائشة "أرغب في معرفة ما يدور في النفس البشرية، وأن أشعر بمعاناة الإنسان لا أن أجري عملية لشخص ما ثم يغادر إلى منزله وانتهى الأمر هنا!".
تضيف "هذا قرار جميل لن أندم عليه في حياتي".
فبعد تخرجها من الجامعة عملت كمحامية متطوعة في قضايا البدون والعمالة المنزلية وضحايا العنف المنزلي والتحرش بالنساء وحقوقهن.
إضافة إلى ذلك تلقت تدريباً في مفوضية شؤون اللاجئين، حيث عملت 3 سنوات مع اللاجئين من المنطقة العربية وبشكل خاص سوريا، إلى أن جاء عام 2017!
وبدأت رحلة جديدة أوصلتها إلى بنغلاديش حيث التقت بمحمد رضوان الفتى الصغير الهارب من مجازر ميانمار!
رحلة "محمد رضوان" اليائسة إلى خارج ميانمار
في كوخ مؤقت مصنوع من الخيزران ومغطى بالقماش البلاستيكي، كان محمد رضوان/ 7 أعوام يوضب في كيس صغير أغراضه المدرسية فيما يتأرجح مصباح فوق رأسه. يقف على حصيرة ينام وعائلته عليها.
لا يعرف رضوان مالذي أوصله إلى هنا في في ملجأ يبعد مسافة أقل من ألفي كم عن منزله في ولاية أراكان غربي ميانمار، فقد كان عمره 4 سنوات عندما فرّت عائلته من المجازر التي ارتكبها جيش ميانمار ضد الأقليات الروهينغا.
رضوان الذي قابلته عائشة في مركز التعليم المؤقت بمخيم كوكس بازرا كان الأقرب إلى قلبها، فهو "طفل مؤدب ولبق، كان يتشاجر مع أصدقائه كلما حاولوا إثارة المتاعب والشغب في مركز التعليم المبكر" بحسب كلام عائشة.
فقد كان يقول لهم بأسلوبه المهذب "علينا احترام الناس".
رغم أن معرفة عائشة باللغة الروهنجية لا تتجاوز بضعة الكلمات مثل "أنت جميلة، أنت جميل، اضحك…" إلا أنها وبمساعدة مترجم انكليزي استطاعت أن تخلق لها عالماً داخل أكبر مخيم في العالم لن تستطيع مغادرته لاحقاً فقد أصبحت مساعدتهم جزءاً مهماً من حياتها.
ومنهم الطفل محمد رضوان، فهو واحد مئات آلاف الأطفال القاطنين هنا، "أغلبهم عراة حفاة يولدون بلا جنسية، يكبرون بدون تعليم، أو يقتصر تعليمهم على حروف الهجاء والعمليات الحسابية البسيطة، يتابعون حياتهم بدون هدف، والخوف أن يغادروا هذه الحياة دون أن يسمع عنهم أحد كما حصل مع اللاجئين من الجيل الأكبر الذين جاؤوا إلى المخيم قبل 30 عاماً في موجة التهجير الأولى التي تعرض لها الروهينغا" تقول عائشة.
يعيش حوالي 919 ألف لاجئاً من الروهينغا الآن في جنوب بنغلاديش، أكثر من نصفهم أطفال. والغالبية العظمى منهم يعيشون في المخيمات والمستوطنات التي ظهرت في منطقة كوكس بازار، على مقربة من الحدود مع ميانمار.
واليوم مرّ أكثر من شهر ولم تسمع عائشة أي شيء عن محمد رضوان، وذلك بعد قرار الحكومة البنجلاديشية بإغلاق المخيم والمنع التام بالدخول إليه بعد جائحة فيروس كورونا.
ولكننا طلبنا منها أن تحدثنا أكثر عن روتينه اليومي، تقول عائشة "يستيقظ محمد رضوان مثل أطفال المخيم مع بزوغ الشمس، يصطفون في طوابير طويلة للحصول على الطعام، وبعد ذلك يلعبون".
هم يحوّلون أي شئ تقع أيديهم عليه إلى لعبة تقول عائشة" هؤلاء الأطفال أذكياء جداً والدليل ما تصنعه أيديهم من وسائل ترفيه وألعاب، وهذا أمر جيد يساعدهم على تخطي المعاناة التي يمرون بها".
محمد رضوان يعتبر أوفر حظاً من الأطفال الأكبر عمراً، فالتعليم في المخيم مسموح للأطفال ما بين عمر 4 إلى 12 عاماً، وهو تعليم غير رسمي".
وما أن تبدأ الشمس بالغروب حتى يتحول هذا المخيم إلى عالم آخر، يعود محمد رضوان وجميع الأطفال إلى خيامهم ينامون و يعاودون الروتين نفسه في اليوم التالي.
عيونهم معلقة على بلدهم الذي لا يستطيعون العودة إليه لأن القانون الدولي يمنعهم من ذلك فالخطر الذي يهدد حياتهم لا يزال!
والآن ما هي رحلة "عائشة"؟
في المحطة الأخيرة مع عائشة وقبل أن نودّعها في العاصمة دكا، وجّهنا مجموعة أسئلة تلّخص فيها رحلتها في العمل التطوعي.
ما هي أمنيتك؟
أن يتم تسليط الضوء بشكل أكبر على المرأة اللاجئة، وبشكل خاص في مخيمات الروهينغا، فمثلاً معدل خروج المرأة من خيمتها من 30 إلى 40 دقيقة يومياً، وذلك يكون إما لدخول الحمام أو لزيارة الطبيب.
فالمجتمع المحلي لا يسمح لها الاختلاط بالآخرين.
اكتشفت خلال عملي معهن أنها لا تملك المجال للتعبير عن نفسها والتفريغ عن عواطفها، هي تعاني بشكل كبير بدءاً من الفوط الصحية التي لا يتم تأمينها لهن.
في أحد المرات قمنا بتوجيه سؤال لأكثر من 800 سيدة في المخيم عن أكثر شيء يردن الحصول عليه فكانت إجابة 600 منهن "مرآة" كي تستطعن رؤية وجوههن فيها.
من خلال خبرتك في العمل بمخيم كوكس بازار، ما هو الحل لمشكلة اللاجئين؟
لا يوجد خبرة في الحياة كافية لحل هذه القضية، لكن لنأمل خيراً لهم!
كيف تمولين ما تقومين به من رحلات تطوعية؟
كلها على نفقتي الخاصة، في بعض الرحلات يحالفني الحظ بوجود متبرعين لكنهم عادة يمولون رحلة واحدة فقط، وأي شخص يرافقني بهذه الرحلة تكون على حسابه الخاص أيضاً.
ما هو أهم عمل قمت به يجعلك تشعرين بالفخر؟
مشروعي مع اللاجئين والتطوع بمساعدة الآخرين والأفكار الإبداعية التي نبتكرها، وخاصة للمجتمع النسائي هناك أمور حساسة يجب أن نهتم بها.
من الأشياء الجميلة أنه كان لي دور في تغيير حياة الكثيرين، وهذا إنجاز يجعلني أشعر بالفخر.
ما هو أهم أمر تعلمته من كل هذه التجربة؟
تعلمت أنه لا يوجد شيء في هذه الدنيا ذي قيمة، كله إلى زوال، والأمور تتغير في يوم وليلة ولا يجب علينا تأجيل أي شيء والوقت المناسب هو هذه اللحظة.
وأكثر ما نحتاجه في أيامنا هذه هو "اللطف في التعامل والتسامح والتقبل".
وأخيراً رسالة للأطفال اللاجئين، كيف يمكنهم ملاحقة أحلامهم والعمل على تحقيقها وهم في هذه الأوضاع؟
يواجه الأطفال اللاجئون مواقف صعبة جداً، ومن وجهة نظري هم استطاعوا تجاوزها لذلك أي أمر آخر سيكون سهلاً عليهم، وخاصة أن أغلب المبدعين في الحياة هم أشخاص اختبروا المعاناة لذلك أنا متأكدة أن هذه المعاناة ستولّد وتخرج أفضل ما في داخلهم.