مجهولو غزة... رهبة الكشف عن هويات الضحايا
قد يكون قول جملة واحدة كـ"هذا ابني" أو "هذه أمي" كفيلًا بتسجيلهم في قائمة الأموات
بصوت مكتوم وبصعوبة، نطقت ريم بكلماتها: "نعم، هذه أمي"، وهي تحاول التعرف على والدتها في إحدى ثلاجات مشافي غزة.
كل شيء حدث بسرعة، إذ كان الدخول إلى ثلاجات المشافي تجربة مرعبة، كما وصفتها ريم لنا. في تلك اللحظة، طلبت من زوجها وخالها وابن خالها التعرف أيضًا على والدتها، وأكدوا جميعًا: "نعم، هذه والدتك، رندة لبد".
تم إغلاق الثلاجة وتسجيل هذه الضحية باسم والدتها.
"كانت تجربة رهيبة للغاية"، تقول ريم، "لأنه بمجرد قولنا ذلك، بغض النظر عما إذا كان ما قلناه صحيحًا أم خاطئًا، تم تسجيلها باسم والدتي وتم إغلاقها تمامًا ودفنها لاحقاً".
لكن بعد 12 يومًا من القصف الذي استهدف المنزل الذي تعيش فيه والدتها في بيت لاهيا، اتضح أن والدتها لا تزال على قيد الحياة، وأن تلك السيدة التي تم التعرف عليها ليست والدتها. وبالتالي، تظل تلك السيدة مجهولة المصير مسجلة باسم والدتها، ومع مرور كل تلك الأيام، يصعب تحديد هويتها الحقيقية وتسجيلها باسمها الفعلي.
المعلومة المؤكدة هنا هي أن هناك شخصًا يبحث عنها، ولن يجدها!
"البحث داخل ثلاجات الموتى عن ابنة أخي"
ريم، أم لأربعة أطفال وحاصلة على شهادة في علم الصيدلة، وجدت نفسها ليس فقط تبحث داخل ثلاجات مشافي غزة عن والدتها، بل كانت تبحث أيضاً عن ابنة أخيها البالغة من العمر تسع سنوات.
تاريخ الكارثة هو 13 أكتوبر 2023، حينما استهدف صاروخ إسرائيلي منزل أخويها، حيث كانا يعيشان في منزل يتألف من طابقين.
أول اتصال ورد إليها بعد الاستهداف أفاد بأن كل من كان في المنزل قد فارق الحياة.
صدمة لا يمكن وصفها، بأن يقول لي أحدهم أن عائلتي وذكرياتنا وكل ما يتعلق بهم خسرته في ثوان. تقول ريم.
لكن مع مرور الساعات والأيام، تبين أن هناك ناجون ، إذ في حين لقي أخوها رامي وزوجته حتفهما، نجا أخوها الأصغر، محمد.
تم فقدان الاتصال مع زوجة أخيها الحامل وطفلتين، إحداهما ابنة أخيها رامي والأخرى ابنة أخيها محمد.
مرة أخرى، وجدت ريم نفسها داخل ثلاجة الموتى للتعرف على ابنة أخيها المفقودة البالغة من العمر تسع سنوات. تقول: "رأيت طفلة صغيرة، شككت في أنها ابنة أخي. خفت من تأكيد ذلك لأنه بمجرد قولي بأنها هي، ستُسجل في سجل الوفيات".
ولا تزال هذه الطفلة في عداد المفقودين الذين وصل عددهم قرابة عشرة آلاف مفقود مصيرهم مجهول هل نجوا أم قضوا حتفهم أم لا زالوا تحت الأنقاض.
باختصار، "هذه لحظات من الجنون" تصف ريم.
اليوم، تقوم ريم إلى جانب أخيها محمد بالبحث عن المفقودين من العائلة.
ومع ذلك، فإن محمد لا يقتصر بحثه على البحث عن ابنته فقط، بل يبحث أيضاً عن رضيع يتم التعريف عليه بالمجهول رقم 900 أو 700.
الرضيع "المجهول الرقم 900 أو 700"
كانت الساعة قرابة الخامسة عصرًا عندما استهدف صاروخ إسرائيلي منزل المهندس محمد لبد، الذي كان يعيش هناك مع زوجته الحامل وبناته الثلاثة، بينما كان أخوه الكبير رامي يقيم في الطابق العلوي مع زوجته وثلاثة أولاد.
استفاق محمد ليجد نفسه في المستشفى حيث تم إسعافه، وقال: "أخبروني بأن زوجتي قد فارقت الحياة، وإحدى بناتي مفقودة، وهي لا تزال حتى الآن في عداد المفقودين. وهنا أيضاً تلقيت خبر وفاة أخي رامي الذي كان يعمل كممرض بالإضافة إلى مقتل زوجته".
بعد أيام قليلة، وصلته أنباء بأن زوجته لا تزال على قيد الحياة وتتواجد في العناية المركزة، حيث وضعت مولودًا يطلق عليه اسم "الرضيع المجهول رقم 900 أو 700"، وهو الرقم الذي لم يتم تأكيده له.
رحلت زوجته ولا يزال الرضيع ضائعًا دون معرفة مصيره.
في لقائنا مع محمد، كان قد مر شهران على تلك الأحداث، وحتى الآن لم يتلق أي أخبار حول الرضيع، والأمل الوحيد لديه هو الانتظار حتى تهدأ الأوضاع ليتمكن من البحث عن طفله من جديد، حتى لو تطلب الأمر إجراء فحوصات الحمض النووي (DNA) للتحقق من هويته.
في الوقت نفسه، نشر صور ابنته الكبرى وابنة أخيه على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وتوجه إلى الجهات المختصة للبحث عنهما وكشف مصيرهما المجهول. وهما رنا لبد، ابنته بعمر 5 سنوات، ورندا لبد، ابنة أخيه بعمر 9 سنوات.
والرضيع المجهول، الرقم 900 أو 700، ليجد نفسه مسؤولاً عن الطفلين الناجين عادل وسارة أولاد أخيه الراحل.
اليوم، يقيم كل من محمد وأخته ريم مع عائلاتهما في مخيم الهلال الأحمر للإيواء جنوب قطاع غزة. يعملون جاهدين على استيعاب ما حدث ومساعدة أولاد أخيهما الذين فقدوا والديهما، وإن كان ذلك بصعوبة كبيرة.
تعرض الأطفال للنزوح مرة بعد مرة وصولاً إلى هذا الوضع الحالي، ويحاولون التكيف وتجاوز ما مروا به بأقصى قدر ممكن.
عادل ٦ سنوات وسارة ٧ سنوات. لكل منهما حلم فسارة تحلم أن تصبح طبيبة وعادل يحلم أن يصبح مدرساً، والحلم الأهم بالنسبة إليهما هو إيجاد أختهما الكبيرة رندا علها تخفف قليلا من وجع خسارة والديهما.
المستشفيات تشكل الهدف الرئيسي في البحث عن الأطفال الثلاثة المفقودين، ولكن هذا أمر يعتبر صعبًا للغاية في التنقل بين المناطق المستهدفة من قبل إسرائيل، خاصةً مع وجود 13 مستشفى يعمل بشكل جزئي، ومستشفيان يعملان بالحد الأدنى، و21 مستشفى لا يعمل على الإطلاق وفقًا لأحدث تقييمات منظمة الصحة العالمية.
وكل ذلك يأتي في ظل ارتفاع عدد الضحايا نتيجة للاستهداف الإسرائيلي، حيث وصل إلى أكثر من 22 ألف فلسطيني خلال ثلاثة أشهر، مع وجود عشرات الآلاف من الأشخاص في عداد المفقودين نصفهم من الأطفال، وآخرون يتلقون العلاج في المستشفيات بدون مرافق، وتتركز هذه المأساة بشكل خاص على الأطفال.
استخدم المسعفون في قطاع غزة مصطلحًا جديدًا وهو WCNSF wounded child no surviving family لوصف هؤلاء الأطفال المصابون الناجون بدون أي ناج من عائلاتهم، والذي يعكس الوضع الرهيب الذي يواجهه الكثيرون من أطفال غزة، حيث تتغير حياتهم في لحظة بعد فقدان والديهم وإخوتهم وأجدادهم، ولا يبقى شيء كما كان.
وعن هذا المصطلح قالت الدكتورة تانيا حاج حسن في مقابلة مع BBC، يوجد في مستشفيات غزة اليوم هناك أطفال مصابون ناجون بدون عائلة ناجية، وبحسب الدكتورة التي تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود يعبر هذا المصطلح عن الوضع المرعب للعديد من أطفال غزة الذين تتغير حياتهم في لحظة.
ولكن ماذا عن الخدج والأطفال الرضع الناجون؟
أما عن الحالات التي تشمل الأطفال الرضع الناجون؟ يقول الدكتور أحمد الفرا، رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي حيث التقيناه:
"واجهنا العديد من الحالات التي تشمل الأمهات الحوامل، حيث تعرضت بعضهن لإصابات خطيرة، بينما فقدت البعض الآخر حياتها. كان على أطباء الجراحة وأطباء الولادة التعامل مع هذه الحالات بحرفية وسرعة فائقة لإنقاذ الجنين.
هناك حالات حيث توفيت الأمهات وتم وضع الأطفال في قسم الحضانة، وهناك حالات أخرى تعاني الأم من إصابات خطيرة، حيث بقيت الأم في العناية المركزة وتعرضت للقطع في الأطراف الأربعة، ولكنها بقيت على قيد الحياة.
هؤلاء الأطفال في قسم الحضانة يواجهون وضعًا صعبًا نوعًا ما نتيجة لانقطاع الرضاعة الطبيعية عنهم. يسعى الكادر الطبي جاهدًا لرعايتهم وتوفير الحليب الصناعي بقدر الإمكان، حتى يتم تأمين الرعاية اللازمة لهم من قبل أحد الكفاءات الطبية أو الأقارب في حالة وفاة جميع أفراد أسرتهم.
هناك العديد من الحالات التي لم يُعرف هوية عائلاتها بعد، ولم يتم التوصل حتى الآن إلى أي فرد من أفراد الأسرة."