أطفالي في الأرض أم في السماء؟

10 آلاف مفقود في غزة نصفهم أطفال جاري البحث عنهم

تصوير: سامي السلطان

تصوير: سامي السلطان

في غضون 15 دقيقة، قلبت حياة يوسف البزم 38 عاماً رأساً على عقب، ذلك الأب الفلسطيني الذي كان يعتبر نفسه أكثر شخص محظوظ في هذه الحياة بفضل عائلته الصغيرة المكونة من زوجته وطفله الصغير، ولكن كل شيء تغير بعد 1 ديسمبر 2023.

كان يوم جمعة، حين جلس يوسف مع زوجته وطفله حمزة البالغ من العمر 11 عامًا على الطاولة لتناول طعام الغداء في منزلهم في حي شيخ إبراهيم بقطاع غزة.

وجبة طعام لم ينهوها.

اشتدت أصوات القصف من حولهم، يقول يوسف لنا "اقتربت الدبابة الإسرائيلية من شارع منزلنا، في البناء نفسه يعيش أخي وعائلته المكونة من ٧ أفراد، قررنا المغادرة فوراً".

حملوا حقائبهم باتجاه منزل أخته في شارع الجلاء، رحلة لم تنته، فبينما خرجت زوجته وابنه نحو الشارع كان هو يغلق باب المنزل كي يلحق بهم، وهنا تم استهدافهم من قبل الدبابة.

"قذيفتان استهدفتنا، تلتها أصوات الرشاشات كان الرصاص الكثيف يهطل كالمطر علينا" يتابع يوسف "لم أستطع الخروج من المنزل حتى توقف الرصاص بعد 15 دقيقة".

عندما خرج يوسف إلى الشارع وجد زوجته مرمية في الشارع تنزف فقد خسرت قدميها، الأشلاء في كل مكان والمصابون أيضاً .. ولم يجد ابنه.

هذه هي المسافة التي تفصل بين يوسف وطفله المفقود

هذه هي المسافة التي تفصل بين يوسف وطفله المفقود

قام بجر زوجته التي دخلت في غيبوبة، وهو اليوم في مجمع ناصر الطبي بخان يونس وابنه لا يزال مفقوداً في مدينة غزة يبعد عنه أقل من 2 كم ولكنه لا يستطيع الذهاب والبحث عنه.

يوسف البزم/ تصوير قاسم الآغا

يوسف البزم/ تصوير قاسم الآغا

يوسف:

"حمزة، الطفل البالغ من العمر 11 عامًا، كان يعيش حياة سعيدة وهادئة. إنه ابني الوحيد، والآن أتوجه بالنداء إلى الصليب الأحمر للمساعدة في البحث عنه. يا ليتكم تجلبونه إلي".

المفقود حمزة البزم/ تصوير قاسم الآغا

المفقود حمزة البزم/ تصوير قاسم الآغا


أين ياسر ورؤى؟


تصوير: قاسم الآغا

تصوير: قاسم الآغا

"أمي، صديقي استشهد، لماذا يسمح الله للأطفال الصغار بالاستشهاد؟"، هي عبارة خرجت من فم الطفل ياسر البالغ من العمر ٨ سنوات وهو يسأل أمه رواء قبل أيام من القصف، لتجيبه "ازرع وردًا وقل الحمد لله".

اليوم تقبع رواء الأم لخمسة أطفال مع آلاف المرضى والجرحى داخل مجمع ناصر الطبي في خانيونس، وفي كل غرفة تتجلى قصة خسارة وألم وأمل، مثل تلك التي شاركتها معنا رواء.

ففي تاريخ 8 ديسمبر، كان آخر ما تتذكره هذه الأم المصابة هو أنها كانت تعدّ طعام الفطور لأطفالها في المنزل بالسطر الغربي بخانيونس. تقول لنا: "لا أعرف ماذا حصل، فقد فتحت عيني ووجدت نفسي على سرير المشفى هنا".

"أطفالي: أحمد وإبراهيم وربى كانوا موجودين"، لتسأل نفسها متفاجئة "لكن أين رؤى وياسر؟". هو سؤال باتت تكرره هذه الأم يوميًا، وهي تبكي بحرقة، قائلة: "كنت أعد لهم طعام الفطور، وهم لم يتناولوه بعد".

تدرك هذه الأم أن آلام الإصابة التي تعرضت لها، لا تضاهي ألم الفراق من ابنتها رؤى، البالغة من العمر 14 عامًا، "تلك الفتاة المؤدبة والمحترمة" كما وصفتها لنا وابنها ياسر ذو الـ ٨ سنوات.

رواء/ تصوير قاسم الآغا

رواء/ تصوير قاسم الآغا

 على الرغم من عدم تذكر رواء لما حدث معهم في ذلك اليوم، إلا أن زوجها موسى الآغا يتذكر الحادث بالتفاصيل. يقول لنا: "استهدف القصف منزلنا، هربنا راكضين دون أيّ اتجاه، لم أستطع تحديد مصدر القذائف، فكانت تأتينا من كل اتجاه".

"خرجنا من السطر الغربي بصعوبة كبيرة وحملنا الرايات البيضاء، كنا نسعف الجرحى بينهم زوجتي. لم أعلم أين ابنتي رؤى وابني ياسر؟" يضيف موسى.

وأكمل موسى جهوده بالتواصل مع الصليب الأحمر للإبلاغ عن فقدان طفليه، لكن لم يحصل على رد حتى الآن.

"أدعو الجميع للمساعدة في البحث عنهما، أريد أن أعرف أين أطفالي هل هم في الأرض أم في السماء" يختم موسى.

موسى الآغا / تصوير قاسم الآغا

موسى الآغا / تصوير قاسم الآغا

بعد مرور أكثر من شهرين من القصف الإسرائيلي على مختلف أحياء غزة ومقتل عشرات الآلاف من الغزيين، كباراً وصغاراً، وجد الأهالي أنفسهم أمام خيارات مختلفة للحفاظ على أطفالهم من الفقدان في مدينة قال عنها الكثيرون بأنها خالية من أي بقعة آمنة.

بعضهم اختار صناعة أساور تحمل أسماء أطفالهم، يرتدونها على أياديهم، أملاً في تحديد هوياتهم في حال وقوع أي حادث.

كما قام آخرون بكتابة أسماء أطفالهم وأفراد عائلاتهم المفقودين على جدران منازلهم المدمرة، آملين بالعودة للبحث عنهم أو أن تتولى جهات مختصة هذه المهمة.

ولكن عملية البحث ليست بهذه السهولة.



تصوير: سامي السلطان

تصوير: سامي السلطان

غزة: 44 ألف مبنى تعرض للدمار أو الضرر

تصوير: سامي السلطان

تصوير: سامي السلطان

أظهر تقييم للأمم المتحدة أن هناك ما يقارب من 40 ألف مبنى في قطاع غزة تدمر كلياً أو جزئياً أغلبها في غزة وشمالي غزة وذلك منذ بدء الصراع في السابع من أكتوبر تشرين الأول.


هذا الدمار الهائل خلّف معه آلاف المفقودين، معظمهم بحسب الدكتور أشرف القدرة المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة "تحت الأنقاض أو في الطرقات التي يتواجد فيها الاحتلال الإسرائيلي".

يقول القدرة لنا إنه قد "تجاوز عدد المفقودين 10 آلاف حتى هذه اللحظة، و50% من هذا الرقم هو من الأطفال الذين لا يزالون تحت الأنقاض أو في الطرقات ومنهم مصيرهم مجهول حتى هذه اللحظة".

ويوضح الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة أنهم يقومون بالبحث عن المفقودين من خلال الأجهزة المختصة سواء من خلال فرق الدفاع المدني أو سيارات الإسعاف.

الدكتور أشرف القدرة المتحدث باسم وزارة الصحة  - غزة/ تصوير قاسم الآغا

الدكتور أشرف القدرة المتحدث باسم وزارة الصحة  - غزة/ تصوير قاسم الآغا

لكن "الإمكانيات والمعدات المتوفرة لدى الدفاع المدني بسيطة جداً وخفيفة، وهم يحتاجون إلى معدات ثقيلة" يقول القدرة "توجهنا بدعوة لكل المؤسسات الأممية وكافة دول العالم بدعم احتياجاتنا الطارئة من أجل توفير المعدات لرفع الأنقاض من فوق رؤوس الضحايا حتى يتسنى لنا التعامل معهم سواء بتكريم الموتى أو المحافظة على حياة الجرحى".

الأطفال المفقودون… مخطوفون أيضاً


تصوير: سامي السلطان

تصوير: سامي السلطان

اليوم يتواجد عشرات الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب التي تتابع أخبار المفقودين، وبشكل خاص الأطفال، يتوجه الآباء والأمهات للقادمين الجدد من مناطق قريبة من منازلهم بالسؤال عن مصير من بقوا خلفهم.

ومع ذلك، يختلف السؤال الذي تتوجه به الأم الفلسطينية زينات عبدالله السموني، حيث تم خطف ابنها واعتقاله أمام عينيها، أثناء مغادرتهم لمنطقتهم متجهين جنوبًا، مثلهم مثل ما يقارب 1.7 مليون نازح من سكان غزة.

التقينا بها في مخيم دير البلح للنازحين جنوب غزة، حيث تعيش في خيمة واحدة إلى جانب 6 أشخاص، بما في ذلك أحفادها وزوجات أبنائها.

تشير قائلةً لنا: "وزع الإسرائيليون منشورات تدعونا للتوجه نحو الجنوب لضمان سلامتنا، وهذا ما قررت فعله أنا وعائلتي".

على الطريق، تم اعتقال ابنها همام البالغ من العمر 17 عامًا على يد الإسرائيليين.

"ابني لا يفارقني للحظة، يشعر بالضياع بدوني. كان يبحث عني فور عودته من المدرسة ويعبر عن فرحه برؤيتي بالضحك والعناق، لماذا حرموه مني؟".

لم تجف دموع هذه الأم خلال لقائنا وظلت تردد: "قلبي يحترق خوفًا على ابني".

الطفل همام ليس هو الوحيد الذي اعتقلته القوات الإسرائيلية، بل قاموا أيضًا بالقبض على ابنيها عبد الله البالغ من العمر 24 عامًا وفرج البالغ من العمر 30 عامًا.

منذ ذلك اليوم، تحاول هذه الأم الحصول على إجابات حول أبنائها، لجأت لوسائل الإعلام والصليب الأحمر، ولكنها لم تتلقَ ردًا.

تقول: "سمعت قبل أيام عن إفراج الإسرائيليين عن 10 أسرى. توجهت إلى الشرطة لمعرفة هويتهم، وأخبروني أن عائلاتهم استلمتهم".

داخل خيمة زينات / تصوير سامي السلطان

داخل خيمة زينات / تصوير سامي السلطان


على الرغم من التحديات التي تواجهها هذه الأم بعد النزوح، من نقص المياه والطعام، والوقوف في الطوابير للحصول على احتياجاتها، والنوم في هذه الخيمة البدائية، يزيد فقدان أولادها من وطأة الألم.

"تفرقنا جميعًا، فرقتنا الحرب عن أهلنا وعن أولادي. لا أعلم شيئًا عن أهلي في غزة، وليس لدي علم عن أولادي"، تقول وهي تمسح الدموع عن وجنتيها، متأملة وجه همام على هاتفها على أمل لقائه قريبًا.

تصوير: سامي السلطان

تصوير: سامي السلطان