شبح المجاعة في غزة
طعام الـ"تكية" لا يكفي لسد رمق النازحين والفقراء
تقف ساندرا القصاص (32 عاماً) بشكل يومي ولساعات طوال، وسط طوابير الطعام بحثاً عما يسد رمق أسرتها، بيد تحمل طفلها، وبالأخرى تلوح بقدر صغير بين عشرات المنتظرين، الجائعين في قطاع غزة، الذي يعاني من نقص فادح في الغذاء ومقومات الحياة.
آلاف النساء على غرار ساندرا يصارعون للحصول على وجبة طعام، فالجميع نزح من شمال غزة الى جنوبها، وتحديداً رفح، بعدما نجوا من القصف الإسرائيلي الذي استهدف منازلهم ودمر الكثير منها، ليجدوا أنفسهم في معركة يومية من أجل البقاء.
تتكون عائلة ساندرا من 10 أفراد، ولإطعامهم بما يسدّ رمقهم، لا بد من أن تقف في طوابير عدة، أولها طابور الخبز، حيث أمضت ساندرا ست ساعات أمام أحد الأفران للحصول على قطعة من الخبز، لتتجه بعدها إلى تكية الرحمة، لتمضي ساعات أخرى في الطابور للحصول على وجبة طعام مطهيّة.
المجاعة “حتميّة”
تحمل مبادرات الطعام والعمل الخيري اسم “تكية”، وهي تعمل في الأساس على تقديم الدعم الغذائي للفقراء، ومع تفاقم حركة النزوح الكبيرة انتشرت مثل هذه المبادرات في جنوب غزة لتقديم الطعام للنازحين، ومن بين هذه المبادرات “تكية الرحمة”، حيث تنتظر ساندرا حصتها من الطعام.
أخيراً، نجحت ساندرا في الحصول على الطعام، وعدنا معها إلى خيمتها، خيمة بسيطة تخلو من كل شيء تقريباً. تصف ساندرا الخيمة قائلةً: “خيمة عبارة عن نايلون وقطع خشب فقط كي نحتمي فيها، لكنها لا تمنع عنا الجو البارد ولا المطر”.
لم يكن جميع أفراد عائلتها حاضرين في الخيمة، فقط زوجها وستة من أطفالها. تشير ساندرا إلى أنها أرسلت ابنتيها إلى الفرن لجلب الخبز، إذ لا يكفي الرغيف الوحيد الذي حصلت عليه سابقاً.
الحصول على رغيف خبز اليوم ليس بالأمر السهل على الإطلاق جنوب القطاع، فالطحين نادر، وإذا توافر، فأسعاره مرتفعة، حتى أن هناك أشخاصاً اضطروا لطحن العلف الحيواني لصنع الخبز.
يواجه قطاع غزة “مجاعة حتمية” نتيجة لقرار أميركا وعدد من الدول الأوروبيّة، وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بعد اتهامات إسرائيلية بأن 12 من موظفي الوكالة شاركوا في هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.
وفقاً لمايكل فخري، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، فإن هذا القرار يعد “عقوبة جماعية لأكثر من 2.2 مليون فلسطيني”، مؤكداً أن “المجاعة كانت وشيكة” والآن “حتمية”.
“نحن على قيد الموت”
البحث عن الطعام أصبح جزءاً أساسياً في حياة النازحين، والقلق واضح على وجوههم، إذ يخشون أن يفقدوا حتى هذه الوجبة الوحيدة التي يحصلون عليها بصعوبة. تقول ساندرا إنه على رغم أن الحياة كانت صعبة قبل 7 تشرين الأول، إلا أنها، بلا شك، كانت أهون مما هي عليه اليوم، وتضيف:”نحن نمر بأيام صعبة، لحظات غيرت كل شيء في حياتنا”.
تتحسر ساندرا على أيامها السابقة، إذ تمضي اليوم كله في الانتظار في الطوابير؛ طابور الخبز، طابور الطعام، طابور المياه الحلوة، طابور المياه المالحة، وحتى طابور العيادات. تقول ساندرا: “حتى إذا أردت شراء أقراص من الفلافل، يعني ذلك الانتظار في طابور طويل للحصول عليها. نحن نحاول يومياً أن نلبي احتياجات أطفالنا الأساسية، ولكنهم، يشتهون الكثير مما لا يمكننا توفيره بسبب ارتفاع الأسعار الفاحش هنا”.
فقدت ساندرا وظيفتها بسبب الحرب التي دخلت شهرها الرابع، إذ كانت تعمل في مستشفى الصداقة التركي في قسم التنظيفات. في آخر يوم عمل لها، تلقت خبر وفاة أخيها (26 عاماً)، وخلال رحلة نزوحها، تلقت خبر وفاة أخيها الأكبر.
ساندرا، مثل الكثيرين، تشكل جزءاً من عائلات وأهالي أكثر من 26 ألف شخص قتلوا خلال هذه الحرب. يحملون أوجاعهم ويحاولون متابعة حياتهم، في انتظار إعلان نهاية الحرب للعودة إلى منازلهم. “لننصب ولو خيمة مكان منازلنا التي تهدمت، المهم العودة”، تقول ساندرا، “فنحن على قيد الموت ننتظر انتهاء الحرب”.
أنهينا حديثنا مع ساندرا مع دخول طفلتيها إلى الخيمة خاليتي الوفاض، إذ لم تتمكنا من الحصول على الخبز. حاولت والدتهما التخفيف عنهما وعرضت عليهما الطعام الذي أحضرته في القدر. تقول ساندرا: “هذه ليست قصتي وحدي، هذه قصة مخيم كامل، نواجه جميعاً الظروف نفسها والمعاناة نفسها”.
على رغم الحزن الذي يعتلي وجه ابنتي ساندرا، إلا أن عائلتهما لا تزال أوفر حظاً من العائلات الأخرى، التي قد لا تكون قادرة على تأمين وجبة طعام من التكيات، والسبب هو نفاد الطعام المطبوخ والجاهز للتوزيع.
“التكيّة” حل مؤقت أمام شبح المجاعة
الحاج خالد، مدير تكية الرحمة، يرى أن أصعب المواقف هي رؤيته أوجه الناس في الطابور حين ينتهي الطعام، يقول : “إنه شعور قاس أن نجد أشخاصاً بعد انتهاء التوزيع يعودون الى منازلهم من دون طعام، لأننا نعلم أن هناك أطفالاً جائعين ينتظرون”.
بالنسبة الى خالد، تشمل تحديات هذا العمل النقص في عدد القدور الكبيرة، يقول: “لو كنا نملك أكثر من تلك القدور، لكنا طهينا طعاماً أكثر وقمنا بتوزيعه على عدد أكبر من الناس”.
يدرك خالد حاجات النازحين، يقول: “كان عدد سكان مدينة رفح لا يتجاوز الـ300 ألف شخص، واليوم تجاوز عدد السكان هنا المليون و40 ألف شخص. الجميع في حاجة الى الطعام والدواء”.
ليس ذلك فقط، فخالد قابل الكثير من الأشخاص الذين صودرت أموالهم على الحواجز خلال نزوحهم، إذ “وصلوا إلى هنا بملابسهم فقط والكثير من الأعباء النفسية”.
يسعى خالد من خلال هذه المبادرة، التي بدأها منذ الأيام الأولى لبداية النزوح، إلى تخفيف العبء عن أهالي غزة. يقوم بتقديم وجبات طعام أساسية، في ظل شكاوى كثيرين حول نقص المساعدات الإنسانية.خالد (55 عاماً)، متزوج وأب لـ 14 ابناً، يدير ثلاث تكيات، يُطهى فيها ما مجموعه 70 قدراً. يُوزَع الطعام على عشرات الآلاف من النازحين في مراكز الإيواء والمدارس والمخيمات. يقول خالد ملخصاً أسلوب عمل التكية: “أينما وُجد النازحون، نحن موجودون”.
الحصار و “العقاب الجماعي”
قبل الحرب، كان حوالى 3 من كل 4 أشخاص في القطاع يعتمدون على الأمم المتحدة للحصول على الغذاء حسب عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي في تصريح لشبكة CNN. وبعد 7 تشرين الأول، فرضت إسرائيل حصاراً شبه كامل على القطاع، وبعد مفاوضات طويلة، سُمح بدخول المساعدات مرة أخرى، ومع ذلك، العملية بطيئة، إذ تمر نحو 150 شاحنة يومياً بعدما كانت نحو 500 شاحنة قبل الحرب.
وهذا ليس كل شيء، إذ يمضي الكثير من الآباء يومهم من دون طعام لضمان أن يحصل أطفالهم على القليل لتناوله، وفي حال توافر الغذاء، ترتفع الأسعار بشكل كبير، ما يجعل شراءه أمراً غير ممكن حتى للأسر التي كانت تصنّف في الطبقة المتوسطة.
وأشار تقرير للأمم المتحدة، إلى أن ما يحصل في غزة يُعتبر أعلى نسبة للأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد تم تسجيلها على الإطلاق في أي منطقة أو بلد معين.