التعليم في غزة: صفوف بين الخيام وتجارب في الواقع الافتراضي
“عندما يقع انفجار قوي أحضنهم جميعاً كي لا يهربوا من الخيمة رعباً، نحضن بعضنا البعض كي نخفف التوتر، وبعد ذلك أتابع الدرس، متجاوزين الموقف”.
في مساحة لا تتجاوز الثلاثة أمتار مربعة وعلى رمال خشنة، وضعت المعلمة راما الثابت فراشاً اسفنجياً ليجلس عليه 13 طالباً وطالبة، يجتمعون يومياً في تمام الساعة الخامسة عصراً حين تبدأ الحصة الدراسية.
راما طالبة في الصف الحادي عشر، نزحت مع عائلتها من منزلهم في غزة إلى أحد مخيمات دير البلح، وتوقفت عن الدراسة والتعليم تماماً، كما توقف كل شيء تقريباً بسبب الحرب.
بعد شهور من النزوح، قررت راما تحويل هذه المساحة بين الخيام إلى شبه صف مؤقت، فاشترت من مصروفها الخاص أقلاماً وألصقت قطعاً من النايلون أشبه بـ”لوح مدرسة” للكتابة عليها، وفوقها وضعت كلمة “غزة”، الحلم الذي أجمع عليه الطلاب حين سألناهم بماذا يحلمون، إذ تكررت هذه الإجابة: “العودة إلى غزة، وأن تتوقف الحرب”، حلم راما ذاته، “معلمة” الصف المُترجل.
قررت راما تخصيص هذه الحصة الدراسية للأطفال بانتظر أن يتحقق حلم العودة، حصة لا تتجاوز مدتها الساعة يومياً، تعلّم فيها الطلاب أساسيات اللغة الإنكليزية، تقول لنا إن “الأطفال نسيوا ما تعلموه بسبب ما مروا به، وأنا هنا أقوم بتذكيرهم بدروسهم وتنشيط ذاكرتهم”.
تربط الأطفال براما علاقة لطيفة، تبدو واضحة على وجوههم وحماستهم خلال توجّههم الى صفّها، يأتون قبل الموعد وينتظرونها، فهنا فسحة تأخذهم لبعض الوقت بعيداً عن الحرب والدمار اللذين يحيطان بهم.
لا تخلو هذه الساعة الدراسية من ضجيج الحرب، تصف لنا راما أنه خلال الدرس، تُسمع أحياناً أصوات انفجارات قريبة من المخيم، فيهلع الطلاب خوفاً.
تقول راما: “عندما يقع انفجار قوي أحضنهم جميعاً كي لا يهربوا من الخيمة رعباً، نحضن بعضنا البعض كي نخفف التوتر، وبعد ذلك أتابع الدرس، متجاوزين الموقف”.
لم تتجاوز راما السابعة عشرة من عمرها، إلا أنها تبدو كمعلمة متمرّسة، تدمج دروسها بمسابقات وطرق مختلفة تشجع فيها الطلاب على التفاعل في الدرس، فلا تكتفي بتعليمهم، بل تقدم لهم مكافآت وجوائز بسيطة.
تولي راما اهتماماً خاصاً بالطلاب الذين يعانون من مشاكل في نطق الحروف الإنكليزية، وتعتبره تحدياً عليها تجاوزه، وتكاد سعادتها لا توصف عندما تشهد تحسناً في كلامهم ونطقهم الحروف.
فجأة، ارتفعت أصوات التصفيق من داخل الصف، رافق ذلك ارتفاع أصوات الدرون الإسرائيليّة، أو “الزنانة” كما يقول عنها الغزيون، التي تحلق طيلة اليوم، هكذا اختارت راما أن تلهي الأطفال عن هذا الصوت الذي لا يكاد يفارقهم دقيقة.
لم تتلقّ راما دعماً من أحد، وستستمر في تعليم الأطفال ولو بأبسط الأساليب، تقول لنا: “أمنيتي أن أتابع تعليمي، وأن أستمر في مساعدة الأطفال في تعليمهم وتحقيق أحلامهم، وأن ننهض جميعاً بالتعليم هنا في فلسطين”.
سبعة أشهر من الحرب دمّرت التعليم في غزة، إذ تعرض أكثر من 80 بالمئة من مدارس غزة لأضرار جسيمة أو دُمرت بسبب القتال، وفقاً للأمم المتحدة.
هذا الدمار أثقل كاهل الغزيين، ومنهم مراون ثابت، الأب لأربعة أطفال، الذي على رغم خسارته منزله وعمله ونزوحه اليوم إلى مخيم دير البلح، إلا أن حرمان أطفاله من التعليم أمر لا يحتمله، بخاصة أن الفلسطينين كما يقول “من أكثر الشعوب تعليماً في العالم”.
ابنته الصغيرة دانة واحدة من طلاب صف راما المتواضع، الذي وجد فيه مراون فرصة لتتابع ابنته تعليمها، يقول: “ابنتي من أوائل الطلاب الذين جاؤوا إلى هذه الخيمة، هذا هو الوضع الطبيعي لأي طفل أن يكون طالباً لا نازحاً أو مشرداً”.
يرى مروان أن الأطفال اليوم في غزة فقدوا كل شيء، التعليم والنظام الذي كانوا يعيشون فيه، فوضعهم الطبيعي أن يكونوا طلاباً في مدارسهم، “هذه حياتهم ووضعهم الطبيعي، ومن حقّهم أن يعيشوه”.
أشار بيان صادر عن مجموعة مكوّنة من 25 خبيراً من الأمم المتحدة الشهر الماضي، إلى “معقولية التساؤل عما إذا كانت هناك جهود متعمدة لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يُعرف باسم “قتل المدرسة”.
وهذا بالفعل ما يخشاه مروان، الذي يأمل بالعودة الى منزله وحياته وعمله كمدير تسويق إلكتروني، باختصار “العودة الى وضع البشر الطبيعين” بحسب كلامه.
ابنته دانة أيضاً تحلم بالعودة الى مدرستها، وأن تلتقي مجدداً بمعلماتها وصديقاتها وكتبها، تقول لنا: “حلمي أن تنتهي هذه الحرب”.
قبل الحرب، كانت في غزة 813 مدرسة توظف حوالى 22 ألف معلم، وفقاً لمجموعة التعليم العالمية، وهي مجموعة بحثية تعمل مع الأمم المتحدة. وكانت هناك مدارس كثيرة تديرها وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، الأونروا.
وبعد الحرب، تعرّض أكثر من 85 بالمائة من تلك المدارس للأضرار أو الدمار، وفقًا لدراسة أجرتها مجموعة التعليم، بناءً على صور الأقمار الصناعية. وقالت إن أكثر من ثلثي مدارس غزة ستحتاج إما إلى إعادة البناء من الألف إلى الياء أو إلى إصلاحات واسعة النطاق قبل أن تُستخدم مبانيها بأمان مرة أخرى.
وثمة أكثر من 320 مدرسة استُخدمت كملاجئ للنازحين من غزة، وأكثر من نصفها تعرّضت لضربات مباشرة أو لحقت بها أضرار جسيمة بسبب الانفجارات القريبة.
ووثّقت الأمم المتحدة ما لا يقل عن 5479 طالباً و261 مدرساً و95 أستاذاً جامعياً قُتلوا في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر، فضلاً عن إصابة ما لا يقل عن 7819 طالباً و756 معلماً.
الهروب من الواقع إلى الواقع الافتراضي
الجميع هنا يحاول النجاة، كل بحسب إمكاناته ومرارة التجربة التي مر بها، ولا يبدو أن مشاكل الأطفال تقتصر فقط على توقفهم عن التعليم، فالصدمات التي مروا بها تُعتبر من أكبر المشاكل التي تواجههم وأسرهم.
مصعب علي على سبيل المثال، وهو متخصص بمجال الإلكترونيات والتحكم الصناعي، يسعى من داخل خيمته الى مساعدة الأطفال على تخطّي ما مروا به من مصاعب نفسية.
أمين، ابن مصعب، تعرّض لإصابة أثّرت عليه نفسياً، فوظف مصعب نظارات الواقع الافتراضي كعلاج لطفله ومساعدته على تخطي ما مر به، يقول لنا مصعب إن هذه التجربة نجحت مع ابنه، لذلك قرر أن يشاركها مع آخرين أيضاً.
المشروع عبارة عن تجربة للواقع الافتراضي من خلال ارتداء النظارات الخاصة به، وإتاحة المجال للطفل للعب في بيئة افتراضية مكوّنة من غابات وحيوانات صمّمها مصعب وفريقه.
مصعب الذي كان يمتلك شركة تطوير ألعاب واقع افتراضي، لديه الأدوات المناسبة لتنفيذ هذا المشروع، الذي اتخذ له مقراً في خيمة قريبة من مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح.
يحتاج الأطفال اليوم بعد شهور من الحرب والمواقف العصيبة التي مروا بها، الى دعم نفسي كبير، وهذا ما لمسه مصعب بدءاً من طفله الذي أصيب خلال الحرب.
يقول لنا: “يحتاج الأطفال الى الوجود في بيئة جديدة بعيدة من الحرب والدمار، والانفصال لبعض الوقت عن الحياة اليومية التي يعيشون فيها”.
وبحسب تجربته، وجد أن الأطفال تجاوبوا معه، وانتقلوا من حالة نفسية سيئة وانعزال تام كانوا يشعرون به الى تحسّن تدريجي، بخاصة أن بعض الأطفال كانوا يعانون من مشاكل في التواصل حتى مع والديهم.
بدأ مصعب مع فريقه تأسيس بيئة تحتوي على شجر وحيوانات يدخل من خلالها الطفل في بيئة جديدة بعيدة من الحرب والدمار، وتفصله بشكل كامل عن الحياة اليومية في غزة من حرب ودمار.
يقول مصعب: “بعد تجاربي وعملي معهم، وجدت أن حالتهم تغيرت، وأجد معالم الفرحة عليهم مجدداً”، فأول كلمة كان يسمعها من الأطفال: “عمو مصعب لا أريد الخروج من المكان الذي أنا فيه اتركني هنا فقط، لأن في الخارج حرباً مستمرة”.
من البرامج التي صمّمها مصعب، برامج الراحة النفسية وبرامج توعية الأطفال من مخاطر مخلفات الحروب والقنابل التي يتركها الجيش الإسرائيلي بعد مغادرة المكان.
وعلى رغم الصعوبات التي تواجهه في عمله هذا، من انقطاع مستمر في الكهرباء وضعف الاتصال بالإنترنت، لكن الدافع لمساعدة الأطفال المتأثرين بصدمة الحرب هو ما يجعله مستمراً.
يوضح لنا مصعب أن فكرة التوعية بمخاطر مخلفات الحروب تأتي من تجارب مؤلمة، إذ يلعب الأطفال بمخلفات الحروب فتؤدي إلى إصابات بالغة، ومن خلال البرنامج، يتعرف الأطفال على تأثيرات الأسلحة ويدركون الخطورة التي تنجم عنها، فالهدف هو أن تحاكي البيئة الحقيقية بدقة ليفهم الأطفال الخطورة بشكل ملموس ويتعلمون كيفية تجنّب المخاطر.
يشرح لنا مصعب أنه من خلال البرنامج يدخل الأطفال بيئة حقيقية، كأن يدخلوا منزلاً مدمراً فيه بعض القنابل والصواريخ، فيكون أول رد فعل للطفل عندما يراها عادةً هو أن يمسكها، وما إن يمسكها حتى تنفجر به، وتعطيه وميضاً حقيقياً، وهذا ما حاول مصعب الوصول إليه عبر تصميم بيئة مشابهة لذلك تماماً، كي يدرك الطفل خطورة ما يمكن أن يوجد بين الحطام.
يختتم مصعب بقوله لنا، “رسالتي كشاب فلسطيني في وسط الصراع: نحن شعب يحب الحياة، ولدينا القدرة على التأثير والابتكار في العالم”.