أطفال الخيام في زمن كورونا

أدوات الاستحمام البسيطة هي كل ما يملكون للوقاية من هذا الوباء!

هنا في الشمال الغربي السوري حيث تصطف المخيمات غير النظامية في الحقول الزراعية أو فوق سفوح التلال، عليك أن تنس التدابير الوقائية التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية للوقاية من فيروس كورونا.

لأنه ورغم أن أبسط تلك التدابير يعتمد على غسل الأيدي باستمرار والتباعد الاجتماعي، لكن يعتبر تطبيقها أمراً شبه مستحيل في تلك الخيام الزرقاء والبيضاء التي  يقطنها أكثر من مليون لاجئ، ويعيش نحو 13 شخصاً داخل خيمة واحدة وبلا مصدر للماء.

لذا إن كانت النصيحة بغسيل الأيدي لمواجهة فيروس كورونا، فهذه العائلات التي قابلناها تعتبر الاستحمام "رفاهية" ومهمة شاقة للغاية!

لماذا؟!

سنقول لكم الإجابة وبالتفصيل...

المهمة الشاقة الأولى

ملء الدلو بالماء!

دلو يوضع داخله الماء

دلو يوضع داخله الماء

إبريق لسكب الماء على الجسم والشعر

إبريق لسكب الماء على الجسم والشعر

صابونة

صابونة

محمد/ 9 سنوات

محمد/ 9 سنوات

كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحاً، عندما قابلنا أم خالد وهي تقف على باب خيمتها في أعزاز شمالي سوريا، تحتضن بين يديها دلو أزرق مهترئ، بينما تنتظر طفلها محمد/ 9 سنوات وأخيراً خرج محمد بنظرة بائسة تعتلي وجهه.

"لماذا أنت مكتئب؟" سألناه!

فأجابنا "اليوم الخميس، سوف أستحم!"

فأم خالد وهي أرملة وأم لـ 4 أطفال اختارت يوماً واحداً فقط في الأسبوع لتحميم أطفالها، فالمياه قليلة جداً ونقلها من الصهريج المركزي للخيمة مهمة صعبة وخاصة أنها وحيدة لا رجل في حياتها يعاونها.

على بعد ما يقارب  7 خيام من خيمتها وصلنا إلى مكان الصهريج، وقفنا مع المنتظرين فالصهريج فارغ ولم يتم ملؤه منذ يومين، وهم موعودين أنه سوف يتم ملؤه اليوم.

وبالفعل هذا ما حصل!

بعد أن ملأت أم خالد الدلو عادت أدراجها للخيمة قالت لنا وهي تضعه داخل الخيمة إن "هذه المياه يجب أن تكفي لتحميم محمد وأحمد"!

إذاً لهذا السبب كان يشعر محمد بالاكتئاب، فنصيبه من ماء الاستحمام لم يكن يعجبه، وما يزيد الطين بلة أنه سوف يستحم داخل الخيمة في نفس المكان الذي ينام ويأكل ويدرس ويلعب.

"تقوم والدتي بوضع كيس نايلون على الأرض وفوقه الدلو ثم أبدأ بالاستحمام" يقول محمد لـ "Tiny Hand".

وما أن تنتهي العملية، يقومون برمي المياه خارج الخيمة.

أحمد/ 6 سنوات

أحمد/ 6 سنوات

إذاً عملية الاستحمام ليست سهلة هنا، وحتى أنها ليست مرضية لأطفال أم خالد! لكن ماذا عن غسيل اليدين بشكل مستمر كإجراء من الإجراءات الوقائية ضد فيروس كورونا!

كان وقع هذا السؤال غريباً على هذه السيدة الأربعينية، تلفتت يمنة وشمالاً في خيمتها وهي تقول "انظروا! أطفالي يعيشون فوق التراب ويلعبون به طيلة اليوم، ولا يأكلون سوى سندويش الزيت والزعتر مم سأحميهم وكيف؟!".

فالسيدة التي تقتصد في استخدام المياه ليست مستعدة على حد كلامها من الإسراف فيه بغسل اليدين طيلة اليوم فهذا الأمر "فيه مبالغة ونوعاً من الرفاهية" على حد وصفها، في مخيم عشوائي يعتبر قاطنوه الماء أمراً ثميناً يجب الترشيد في استخدامه حتى مع وجود تهديد لأمر بخطورة "كورونا"!.

لكن ذلك كله لا يهم محمد فهو يشعر بسعادة بعد الاستحمام وسيخرج للعب مع أصدقائه.

المهمة الشاقة الثانية

تسخين مياه الاستحمام

في الوقت الذي يقضي فيه معظم أطفال العالم وقتهم في منازلهم بسبب الحجر الذي فرضه انتشار فيروس كورونا، كان المشهد مناقضاً تماماً في هذا المخيم فالأطفال يلعبون في كل مكان.

منهم إيمان التي كانت جالسة بجانب خيمتها مع صديقاتها، كانت تحدثهن عن منزلها في قرية معصران التي نزحت منه قبل شهرين.

فهناك على سبيل المثال، الحمام مختلف تماماً فهي ليست مضطرة للاستحمام في ماء بارد، أو في أحسن الأحوال فاتر عندما تتوفر لديهم الأخشاب يشعلونها لتسخين الماء عليها.

تقول إيمان "أستحم مرتان في الأسبوع، وفي كل مرة أتذكر فيها الحمام في منزلنا لم نكن حينها نفكر بالماء الساخن ولا بكمية الماء التي سوف نستهلكها خلال الحمام".

وليس ذلك فقط، كان من اللافت عندما ذكرت إيمان أمر السيراميك الذي كان يغطي أرض الحمام في منزلها، رغم أن ذلك تفصيل صغير لكنه أمر مهم بالنسبة لطفلة تقضي حياتها فوق التراب.

تقول إيمان "الحجارة الصغيرة والتراب في كل مكان، الأمر مزعج للغاية ويجعلك تشعر أنك متسخ دائماً!".

قالت عبارتها تلك بينما كانت تتابع اللعب بالحجارة الصغيرة مع صديقاتها، يقمن برمي حجر صغير والشخص الذي يقع بقربه الحجر عليه أن يتحدث عن منزله القديم!

لعبة جميلة ولكنها قاسية في نفس الوقت!

في شمال غربي سوريا، حيث يعيش مليون شخصٍ ممن فرُّوا بسبب الحرب في الخيام الموحلة والمباني المهجورة، يمكن أن يصبح تفشي فيروس كورونا كارثة لا توصف في منطقةٍ مدمرة

صحن يوضع فيه ماء الاستحمام

صحن يوضع فيه ماء الاستحمام

إبريق لسكب الماء

إبريق لسكب الماء

شامبو

شامبو

صابونة

صابونة

إيمان

إيمان

المهمة الشاقة الثالثة والأخيرة

حبل الغسيل في الفصول الأربعة!

إبريق لسكب المياه

إبريق لسكب المياه

صابونة للاستحمام

صابونة للاستحمام

سناء/6 سنوات

سناء/6 سنوات

إذاً حصل الأطفال على حمامهم الأسبوعي، وحصلت الأمهات على نصيبهن من أكوام الملابس المتسخة وحان الوقت لغسلها باستخدام ما تبقى من مياه ومساحيق الغسيل التي غالباً ما توزعها عليهن المنظمات الإنسانية.

لكن المشكلة بالنسبة إلى والدة غيث / 4 سنوات التي استقبلتنا في خيمتها كان بمكان نشر تلك الملابس!

ربما كانت الإجابة واضحة لنا في خيمة يتوسطها حبل غسيل عليه ملابس ملونة، لتضفي تلك الألوان عنصراً عشوائياً في مكان لا يوجد فيه قطعة تشبه الأخرى، السجاد لونه أزرق، الحصائر التي ينامون عليها لونها أحمر وأدوات الطعام خضراء!

تقول والدة غيث "ما زال الجو بارداً لذلك فضلت نشرها داخل الخيمة، ما يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تجف، وتجف معها أنفاسنا بسبب الرطوبة التي تسببها في المكان المغلق الصغير هذا".

ولكن لا يختلف الأمر كثيراً في الصيف، عندما تقوم هذه السيدة الثلاثينية بمد حبل الغسيل خارج الخيمة، فرغم أن "الملابس ستجف بشكل أسرع إلا أنها في حال نجت من بقع أيادي الأطفال الممتدة للعب فيها، ستكون مليئة بالأتربة والغبار" بحسب كلام والدة غيث.

غيث/ 4 سنوات

غيث/ 4 سنوات

وبينما كانت توضب الغسيل المنشور في خيمتها، قالت لنا "يقولون لنا احذروا من فيروس كورونا، كيف لنا أن نحذر منه ونحن لا نملك أدنى مقومات الحياة هنا، ولم يهدأ بالنا لحظة منذ 9 سنوات ننتقل من كارثة لكارثة أكبر؟!

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن ما يفوق 84 مستشفى ومنشأة طبية في شمال غربي سوريا إما تضررت أو دُمرت فضلاً عن افتقار المستشفيات التي ما زالت تعمل إلى الإمدادات الطبية اللازمة.

"مخيم 5 نجوم"

السر في دورات المياه!

التباعد الاجتماعي والبقاء في المنزل هما الإجرائين المشتركين نوعاً ما بين معظم الدول في حربها ضد فيروس كورونا، لكن الأمر مختلف تماماً في المخيمات السورية، التي وجد أطفالها في توقف التعليم فرصة للمزيد من اللعب بين الخيام مع أصدقائهم.

ومنهم حسين الذي كان يلعب كرة القدم مع أصدقائه قبل أن يقاطعه أحدهم بصوت مرتفع "أصبح لدينا تواليت في المخيم!".

وبالفعل كان قد تطوع أحد قاطني المخيم ببناء دورة مياه تضم خمسة مراحيض يستخدمها قرابة 50 شخصاً، لكن المفاجأة لا يوجد مكان مخصص لغسل اليدين.

عندما سألنا حسين عن المكان الذي يغسل يديه فيه، أوضح لنا أن والده قام بتحويل علبة بلاستيك كانت يوماً علبة طعام إلى حوض لغسل اليدين وهي نفسها التي يملؤونها بالماء للاستحمام!

يقول حسين لـ "Tiny Hand" لقد "شدد والدي علينا أن نغسل أيادينا قبل الطعام وبعده، وبعد اللعب كي نحمي أنفسنا من فيروس كورونا".

"لكن هل تعرف ما هو فيروس كورونا" سألناه.

يقول الطفل الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره "هو مرض صغير يشبه الأشواك، يدخل إلى أجسامنا ويقتلها، وللوقاية منه علينا غسل الأيدي 5 مرات بالصابون".

لكن ما يهمهم الآن أكثر من ذلك، هو دورة المياه الجديدة التي مازحنا أحد القاطنين في المخيم أنها جعلت المكان "مخيم 5 نجوم" على عكس المخيمات العشوائية حيث تتدفق مياه الصرف الصحي على الملأ في الطرقات!.

علبة بلاستيكية للماء

علبة بلاستيكية للماء

إبريق سكب المياه

إبريق سكب المياه

صابونة

صابونة

شامبو

شامبو

حسين/ 9 سنوات

حسين/ 9 سنوات

الاستحمام الـ"رفاهية"

وبينما يحاول القاطنون في مخيم أعزاز تأمين حمام لأطفالهم بأبسط الأدوات التي يملكونها من ابريق بلاستيكي وصابونة وشامبو والقليل من الماء، يقاتل العالم للوقاية من فيروس كورونا الذي سرق إلى اليوم آلاف الأرواح حول العالم وأصاب أكثر من مليون شخص!

ولكن المياه القليلة هنا جعلت من هؤلاء اعتبار "الاستحمام رفاهية" وغسل اليدين بشكل مستمر مهمة شبه مستحيلة التحقيق!

سحر/ 10 سنوات

سحر/ 10 سنوات

تقول سحر:

أستحم مرة واحدة في الأسبوع، وتقوم والدتي بغسل الملابس على يديها بالصابون، أكثر ما أكرهه في هذا الاستحمام داخل الخيمة الشعور بالبرد، فلا يوجد باب عكس حمام منزلنا الذي نزحنا منه.

شعيب/ 6 سنوات

شعيب/ 6 سنوات

يقول شعيب:

أستحم مرة واحدة أسبوعياً كل يوم جمعه، الحمام هنا ملي بالحجارة الصغيرة!

إسراء/ 10 سنوات

إسراء/ 10 سنوات

تقول إسراء:

الحمام مثل عدمه! لأن الخمية مليئة بالتراب وما أن ننتهي من الحمام حتى يطمرنا الغبار والتراب مرة أخرى وكأننا لم نستحم بالأصل!

وفي وسط هذا المشهد الفوضوي المزدحم حول تأمين مياه الاستحمام، تقدّر  نيويورك تايمز أن مليون شخص في محافظة إدلب يمكن أن يصابوا بفيروس كورونا، و100 إلى 120 ألفاً يمكن أن يلقوا حتفهم، فيما سيحتاج 10 آلاف شخص إلى وضعهم على أجهزة التنفس الصناعي. غير أنه لا يوجد سوى 153 جهاز تنفس صناعي في المحافظة في الوقت الحالي.

ولكن ليست هذه المشكلة الوحيدة التي تهدد هذا المكان، فبحسب عبدالرازق زقزوق، أحد مساعدي المسؤول الإعلامي للجمعية الطبية السورية الأمريكية في المستشفى: “بكل أسفٍ ليس لدينا مناطق للحجر الصحي في سوريا، وفي حال ظهور أي حالة لفيروس كورونا سيكون الوضع كارثياً”. 

الأمر الذي أكده أخيراً مايكل أوليفر لاشاريتيه، منسق الأزمات لدى مؤسسة أطباء بلا حدود:

“لا أدري كيف سيكون بمقدور أي شيخ أو شخص مُصاب بالفيروس عزل نفسه”.!!