عصافير زرقاء تحلّق رغم الحرب

كتاب يحكي عن وجع "إنجي" وأطفال سوريا في حرب العشر سنوات

هديل عرجة

"أخذتِ الحربُ منَّا كلَّ شيء منذ أن كنتُ في سنِّ العاشرة. في البداية ظننَّا أنَّها ستنتهي خلال أسابيع أو أشهر لكنَّها لم تترُكْنا. أتى الحصار إلى مدينتنا ومعه الخوفُ والجوع وكلُّ ما يمكن أن يحرق قلبَ صغيرٍ مثلي. رغم كلِّ ذلك، ظلَّت طفولتي تقاوم ولكن هل تستطيع الاستمرار؟ هذا الكتاب هو صرخةٌ منَّا، نحن الأطفال، إلى العالم- عالمٍ نستطيع وسط ظُلمته الوصول إلى النور، ووسط ظُلمه الوصول إلى أمل."

بهذه الكلمات عبّرت أنجي جروج الفتاة السورية عن وجع لجرح أصاب قلبها قبل عشر سنوات ولم يلتئم حتى اليوم، لذلك قررت نقل قسم من هذا الألم إلى صفحات كتاب "عصافير زرقاء" تروي فيه تفاصيل ومشاعر واجهتها وأطفال سوريا خلال الحرب التي لم تنتهي آثارها بعد!

Tiny Hand أجرت حواراً مع إنجي لترافقها في رحلة داخل صفحات هذا الكتاب الذي يصادف صدوره الذكرى العاشرة للحرب في بلادها.

المحطة الأولى: حمص القديمة

قبل اختفاء عصافير السماء

من شرفة أحد منازل مدينة حمص، وتحديداً في المنطقة القديمة منها كانت تراقب إنجي المارة، لطالما أذهلتها قدرة هذه المدينة على السهر، كل شيء كان بسيطاً فيها، تراقب إنجي المارة رجل مسن يتكئ على حجارتها الأثرية، طفل يمسك يد والده ويضحكان، أحاديث المارة وزمامير السيارات، لا ملامح للقلق ولا للخوف على الوجوه.

ولكن  كل ذلك كان قبل الحرب، وفي يوم وليلة انقلب حال هذه المدينة لتتحول إلى "مدينة أشباح" تقول إنجي!

"لم أكن حتى ذلك الوقت أعرف معنى أن يشعر الشخص بالجوع؟ ولا أتذكر قبل ذلك الوقت أنني رأيت ملامح القلق على وجه والدي ولا أي شخص أعرفه"!.

إنجي لم تكن حينها قد تجاوزت العاشرة من عمرها، لكنها بالتأكيد تجاوزت مرحلة الطفولة وألعابها وبرامجها الكرتونية المفضلة والأحاديث الطفولية مع والديها، وبشكل خاص بعدما استهدفت قذيفة منزلهم ودمرت كل شيء.

تقول إنجي " كنت أشعر بألم كبير، واختبرت تجربة أكبر من عمري، أنا لم أمر بمرحلة الطفولة بل خسرتها!".

المحطة الثانية: الحصار!

أيها العصافير لا ترحلي....

سنوات عاشتها إنجي وعائلتها يهربون من منزل لآخر، قتل تفجير أولاد عمها، ودمّر منزلهم ومدرستها، توقفت عن ارتياد المدرسة فلا وقت للتعليم في الحرب، وشاهدت الأمهات تبكين والآباء مثقلي الكاهل بهموم لا يعرفون كيف يتخلصون منها، ومنهم والديّ إنجي.

حاولت إنجي مع أصدقائها خلال سنوات الحرب الذي تعرّضت له مدينتها حمص أن تمحو آثار الدمار، فقامت هذه الطفلة التي تتمتع بموهبة الرسم بتزيين تلك الجدران المدمرة، "كمحاولة حرفية لتلوين المدينة مرة أخرى".

كانت إنجي في العاشرة من عمرها عندما اندلعت الحرب في بلادها، وغادرتها عندما بلغت السادسة عشر من عمرها، وهي تحمل في جعبتها قصتها وقصص كل طفل عانى ولا زال يعاني من الحرب!

تقول إنجي "حصلت على منحة لدراسة الدبلوما الدولية في البوسنة والهرسك، وبعدها حصلت على منحة لمتابعة دراستي الجامعية في بريطانيا".

اللافت في هذه المغامرة التي خاضتها إنجي وحدها أنها لم تكن تتكلم اللغة الإنكليزية الأمر الذي كان يرعبها، على عكس حالتها اليوم فهي تتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة بلهجة بريطانية تكاد تتفوق على البريطانيين أنفسهم!

مقدمة كتاب "عصافير زرقاء"

مقدمة كتاب "عصافير زرقاء"

لا عصافير في سماء سوريا

رحلت العصافير من سماء مدينتها، فلا مكان لها بين القذائف ولا بين الأرواح التي تتزاحم في هذه السماء، كل ذلك كان يشعر إنجي بالضيق والحزن فوجدت في الكتابة مساحة للتمسك بالأمل، كانت تلتقي أطفالاً بعمرها خلال الحصار يتبادلون تجاربهم وأوجاعهم.

كل ذلك ستجده خلال تصفحك كتاب "عصافير زرقاء" فألم كل طفل التقت به إنجي أو لم تلتق به هو الذي ألهمها في كتابته.

"نحن لسنا مجرد أرقام، يجب أن يسمع العالم أصواتنا، لا أريد أن تتحول معاناتنا إلى مجرد أرقام يسمعها العالم عبر نشرة الأخبار" تقول إنجي.

ولكنها في الوقت نفسه حاولت أن تنقل من خلال الكتاب رسالة أمل لكل شخص عانى أو لا يزال يعاني من الحروب أو الكوارث أو حتى بسبب ما فرضته جائحة كورونا، وذلك "كي يقف كل شخص منا على قدميه مرة أخرى ويتابع في طريقه" تقول إنجي.

لكن لماذا اختارت  هذا الاسم تحديداً "العصافير الزرقاء"؟

توضح ذلك بكلامها "كانت العصافير قبل الحرب مثل الأحلام الوردية موجودة في خيال كل طفل، عصافير زرقاء والسماء زرقاء، ولكن بعد الحرب، أصبح هنالك مفهوم مختلف و أعمق للعصافير الزرقاء. حيث أصبحت تمثل القوة التي تنبع من داخلنا و تساعدنا في التحرر من الألم المحيط لنصل للحرية الداخلية و نحلق بأرواحنا كما تحلق العصافير".

الكتاب مبني على قصص لأطفال مجسدة في شخصية طفل واحد، لا اسم له لأنه يمثل كل الأطفال.

وهو متوفر باللغة العربية عن دار النشر "جبل عمان ناشرون".

https://shop.japublishers.com/Blue-Birds

تكتب إنجي في إحدى فقرات الكتاب:

راحت ألوان الطبيعة تتحوّل

حتى أخذت السماء  من الدخان والسّواد لونها

وأخذت التربة من الدماء غطاء يقيها من برودة أقدامهم

كانت كلّ صرخة تمدّ يديها إلى قلبي،

وتنتزعه من مكانه وتهزّه،

وتخبره بأنّه الضحية التالية.

كان بكاء الأطفال المتواصل يشتم أركان القوة

تطير الأرواح كدخان حريق أحد حاويات النفايات

وينتشر رماد الجثث

في صمتهم الراكع أمام السلاح صرخة صلاة.

وخناجرهم تقرع أجراس الكنائس

وتصدح بأصوات المساجد

هل تسمعنا يا رب؟

وكانت الدار "جبل عمان ناشرون" قد سمعت عن قصص إنجي القصيرة، فتواصلت معها وقرروا العمل على كتاب "العصافير الزرقاء"، "أعجبتهم الفكرة لأنها تحمل رسالة إنسانية
تتحدث عن وجع أطفال الحروب بعيداَ عن السياسية والدين وفي الوقت نفسه قدّم الكتاب رسالة أمل".
وقام الرسام حسان مناصرة برسم رسومات الكتاب التي "أعطت قيمة أعمق للكتاب" على حد وصف إنجي

الرسمة بريشة الرسام "حسان مناصرة" من كتاب "عصافير زرقاء

الرسمة بريشة الرسام "حسان مناصرة" من كتاب "عصافير زرقاء

هل ستعود عصافير سوريا؟

الرسمة بريشة الرسام "حسان مناصرة" من كتاب عصافير زرقاء

الرسمة بريشة الرسام "حسان مناصرة" من كتاب عصافير زرقاء

تحدّق إنجي من نافذة منزلها في بريطانيا حيث تعيش اليوم وحدها بعيداً عن أهلها، هنا سترى العصافير تحلق في السماء،"لكن هل ستعود العصافير لسماء مدينتها أيضاً؟ ومتى ستعود؟! تتساءل إنجي.

حطت إنجي رحالها في بريطانيا بعد أن حصلت على منحة لتدرس في إحدى جامعاتها "نورويتش للفنون" وتتخصص في مجال صناعة أفلام الكرتون "الأنيمشن".

ربما كانت بريطانيا محطة من رحلة إنجي في البحث عن "الحرية الداخلية" التي فرضتها الحرب، مبادئ اجتماعية تغيّرت بمجرد اندلاع هذه الحرب "أصبح القتل مسموحاً، شخص يقطع رأس آخر وهو يضحك ويشعر بسعادة غامرة" تقول إنجي.

كل ذلك جعلها تبحث عن الإجابات لأسئلة "ما هو الصحيح وما هو الخطأ؟ ورحلة السعي للوصول إلى الحرية الداخلية التي نقلتها إلى صفحات الكتاب".

لكل طفل في المخيمات.. هذه رسالتي

بريشة إنجي

بريشة إنجي

بريشة إنجي

بريشة إنجي

بريشة إنجي

بريشة إنجي

لكل طفل في المخيمات أقول:

"يجب أن تؤمن بنفسك، ومهما تعقدت الأمور وشعرت أن الحياة خالية حاول أن تخلق فرصتك، حتى لو كنت تعيش في مخيم للجوء، يمكن أن تكون تلك الفرصة في كتاب تقرأه أو شخص تتعرف عليه بالصدفة، أو مدرسة تذهب إليها".

لكل طفل يعاني من ظروف صعبة أقول:

"الحياة لا تخلو من الفرص، ومهما كانت الفرصة بسيطة انتهزها، المهم ألا تستسلم وألا تتوقف عن البحث عن تلك الفرصة".

"لا تنتظر السفر كي تنفتح أبواب المستقبل من أجلك، واعمل على تغيير ما يزعجك، القليل سيحقق الكثير مع مرور الوقت".

لكل أصدقائي في سوريا أقول:

لقد انهدم منزلي ومدرستي ولكن ما تعلمته من الحرب ألا أشعر باليأس، لا تفقدوا الأمل أنتم أيضاً، اسعوا من أجل الفرصة التي تستحقونها.

تعمل اليوم إنجي على كتاب آخر، لكن هذه المرة سيتحدث عن طفلة لاجئة لا زالت تحمل الحرب بداخلها رغم وصولها إلى برّ الأمان، "الأمان وحده لا يكفي هؤلاء الأطفال بحاجة إلى الدعم النفسي كي تغطي الجروح النفسية التي خلقتها سنين الحرب" تقول إنجي "هذه القصة ستكون عن طفلة  لاجئة عمرها عشرة سنوات تسعى في رحلتها إلى تجاوز ما شوهته الحرب في صحتها النفسية و الجسدية".

تتابع بحزن "وقع كلمة اللاجئ مؤلم ويجعلني أحزن لأنني أدرك مرارة الرحلة التي مرّ بها والتي من الصعب حتى التعبير عنها كي يصل في نهاية الأمر إلى بلد آمن، ليبدأ معه صراع آخر وهو صراع الهوية والانتماء وصراع البعد عن الأهل".

"هذا الكتاب هدية لكل طفل في العالم واجه موقف صعب ولا يزال يتمسك بالأمل، ولا يزال هناك فسحة من الحب داخل قلبه.هذا الكتاب هدية لعائلتي التي واجهت ظروفاً صعبة ووقفوا إلى جانبي وأنا طفلة، قدموا الحماية لي قدر استطاعتهم وعلّموني كيف أحقق أحلامي رغم كل الظروف وأن تبقى  الحياة تنبض داخل قلبي." إنجي