الأطفال المتخلى عنهم
الرعاية البديلة في الشمال السوري خلال سنوات الحرب

عندما يصلك اتصال هاتفي يخبرك بوجود طفل حديث الولادة مرمي في سلة القمامة بجانب مركز لحماية الأطفال حيث تعمل، لن يكون الموقف مجرد حالة عابرة، بل سيكون مشهدًا يدعو للرعب ويستدعي استنفار كل الجهود لإنقاذ حياة هذا الطفل. هذه هي واحدة من الحالات التي واجهتها منال خلال سنوات عملها مع الأطفال المتخلى عنهم.
كانت الساعة تقارب الثانية عشرة مساءً، في ليلة شديدة البرودة كما تروي منال، العاملة في المجال الإنساني منذ العام 2015. كان عليها وعلى فريقها التحرك بسرعة، لأن هذا الطفل لن يبقى على قيد الحياة لفترة طويلة. تقول لـ Tinyhand: 'كان يبدو أن من تخلى عن هذا الطفل يبعث لنا برسالة مفادها: إذا لم تهتموا به، فليمت هنا في سلة القمامة، لا مشكلة'.
كانت هذه الحالة واحدة من عشرات الحالات التي تابعتها منال خلال عملها مع إحدى المنظمات الإنسانية، حيث كانت تشرف على الأطفال الذين تم التخلي عنهم في مناطق عملها شمال غرب سوريا. توضح منال أن معظم هؤلاء الأطفال كانوا ضحايا حمل ليافعات تعرضن للاغتصاب ولا يرغبن في إنجاب هؤلاء الأطفال. وتضيف: 'كانت أعمار الفتيات تتراوح بين 15 و 16 عامًا'."
توضح منال أن ضحايا الاغتصاب لم يكنّ من الفتيات فقط، فقد تعاملت أيضًا مع نساء بأعمار أكبر، مؤكدةً أن ضحايا العنف الجنسي لم يقتصر على الفتيات.
التقينا منال خلال رحلة البحث عن القصة الكاملة وراء أطفال تم التخلي عنهم في مناطق شمال غرب سوريا، انتهى بهم المطاف أمام مشفى، جامع، أو مخفر شرطة؛ بعضهم وصل إلى فرق حماية الأطفال، والبعض الآخر انتهى بهم الأمر في دور رعاية الأيتام، بينما هناك من لم يسمع بهم أحد أصلاً!
تم تغيير جميع الأسماء في هذا التحقيق الاستقصائي حفاظًا على سلامة وأمن المعنيين، ومن أجل ضمان عدم الكشف عن هويات العائلات البديلة التي احتضنت عددًا من هؤلاء الأطفال، حيث أن السرية تشكل أساس نجاح هذه المهمة.
أُجريت اللقاءات في هذا التحقيق قبل سقوط النظام.
ضحايا الفقر ضحايا الاغتصاب

العمل في مجال حماية الأطفال الذين تم التخلي عنهم من ضحايا 'الاغتصاب' هو عمل محفوف بالمخاطر، خاصةً عندما لا تلتزم الأطراف المعنية بالسرية.
توضح منال أن أحد أبرز التحديات التي تواجههم في هذا العمل هو الخلاف الكبير بين العاملين في مجال العنف القائم على النوع الاجتماعي والقطاع الطبي. فبعض العاملين في هذا المجال يخرقون تلك السرية، ولا يتعاملون مع الناجيات كناجيات، بل كمريضات، ويرفضون الحفاظ على السرية أمام السلطات المحلية.
ورغم كل الاستراتيجيات التي تتبعها منال وفريقها، إلا أنهم تعرضوا للخطر أكثر من مرة. تروي منال إحدى الحوادث المتعلقة بناجية من حادثة اغتصاب كانت ترفض بشكل قاطع الاحتفاظ بالطفل. كان عليهم متابعة حالتها حتى الولادة، ثم وضع الطفل أمام المشفى ليتمكنوا من إيجاده لاحقًا، ومن ثم البحث عن عائلة بديلة. كان هذا السيناريو المعتمد في مثل هذه الحالات. لكن كاميرات المشفى كشفتهم عندما اشتكى مدير المشفى وأفاد أنهم من وضعوا الرضيع هناك.
في حين كانت جميع الحالات التي تابعتها منال تتعلق بأطفال ضحايا اغتصاب، فإن جميل*، الشاب الذي يعمل في المجال الإنساني لأكثر من عشر سنوات، قام بمتابعة حالات لأطفال تم التخلي عنهم بسبب الفقر.
خلفيات التخلي عن الأطفال
العديد من الأطفال حديثي الولادة في هذه المناطق يولدون نتيجة علاقات غير شرعية أو حالات اغتصاب، ما يدفع الأمهات إلى التخلي عنهم خوفًا من العار الاجتماعي أو لعدم قدرتهن على تربيتهم. وفي بعض الحالات، يكون السبب الفقر المدقع، حيث تعجز العائلات عن إطعام طفل جديد فتتركه في مستشفى أو مكان آمن على أمل أن يجده أحد ما.
بداية الرحلة: إنقاذ طفل من مصير مجهول

بدأ جميل* عمله في حماية الطفل عام 2016، عندما انضم إلى فريق يعمل على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال في مراكز الإيواء. بمرور الوقت، انتقل إلى العمل الميداني، حيث بدأ يتعامل مع حالات الأطفال الذين تم التخلي عنهم أو فقدوا أسرهم.
"أول حالة تعاملت معها كانت عام 2019، كانت طفلة حديثة الولادة، وُجدت أمام أحد المشافي بإدلب. "لم يكن لدينا في ذلك الوقت خبرة كافية أو بروتوكولات واضحة، لكننا عملنا على تطوير آليات لحماية هؤلاء الأطفال عبر توفير أسر بديلة لهم"، يوضح جميل.
نظام الرعاية البديلة: تعد رحلة البحث عن بيت آمن وإيجاد أسر بديلة قادرة على رعاية هؤلاء الأطفال أحد أبرز التحديات، مع ضمان بيئة آمنة ومستقرة لهم. "نحن نقيّم الأسر بعناية، ونتأكد من قدرتها على تقديم الرعاية اللازمة، ونحصل على موافقات من الجهات القانونية والشرعية لضمان أن العملية تتم بشكل صحيح"، يشرح جميل.
في حالة الطفلة التي وُجدت بإدلب، خضعت للمتابعة الطبية، وتم إيداعها لدى ممرضة بشكل مؤقت حتى تم العثور على عائلة مناسبة. "قمنا بتقييم العائلات المحتملة، بحثنا عن أسرة تمتلك بيئة مستقرة ومؤهلة لرعاية الطفل، ووقع اختيارنا على زوجين لم يُرزقا بأطفال، وأبديا رغبة قوية في احتضان الطفلة".
بعد توقيع اتفاق الرعاية، الذي يضمن عدم استغلال الطفل وعدم اعتباره كابن بيولوجي للعائلة، تم تسليم الطفلة رسميًا للأسرة المختارة، التي تكفّلت برعايتها. اليوم، بعد أربع سنوات، تعيش الطفلة حياة طبيعية، وتدرس في إحدى الروضات.
التحديات القانونية والاجتماعية التي تواجه العاملين في هذا المجال كبيرة. أبرزها غياب سجل مدني للأطفال مجهولي النسب في شمال سوريا، ما يجعل تسجيل هؤلاء الأطفال رسمياً أمراً بالغ التعقيد.
"نحاول الضغط على الجهات المعنية لإنشاء سجل خاص لهؤلاء الأطفال، لضمان حصولهم على حقوقهم المدنية، مثل التعليم والرعاية الصحية، لكن لا يزال هناك غياب للتشريعات اللازمة"، يقول جميل*.
إضافة إلى ذلك، تواجه الفرق العاملة في حماية الطفل تحديات أمنية، حيث يمكن أن تتغير الأوضاع بسرعة، مما يعيق عملهم. "في بعض الأحيان، تكون هناك ضغوط اجتماعية تمنعنا من التدخل، أو تعيق نقل الأطفال من بيئات غير آمنة إلى أماكن أفضل".
يواصل جميل وزملاؤه العمل بلا كلل لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأطفال. "كل طفل نساعده يمثل خطوة نحو مستقبل أفضل. نحن لا نحمل عصا سحرية لتغيير الواقع، لكننا نحاول أن نكون جزءاً من الحل"، يختم حديثه بقوله "الأهم في عملنا أن كل الاطراف يجب أن تدرك أن هؤلاء الاطفال لا ذنب لهم!
هذا ووثق مركز سوريون من أجل الحقيقة والعدالة وجود قرابة 100 طفل تم التخلي عنهم في الفترة ما بين 2021 و 2022 في مختلف مناطق سوريا.
تهديدات خطيرة قد تصل لـ "قضية دعارة"

العمل في هذا المجال محفوف بالمخاطر، حيث يتعرض الناشطون فيه لتهديدات حقيقية، ليس فقط بسبب تعقيدات القضايا، ولكن أيضاً بسبب "رفض المجتمع لمناقشة هذه الملفات الحساسة. كما أن غياب جهة موحدة تنظم عمل المنظمات المتخصصة يؤدي إلى ضياع الكثير من الجهود، مما يجعل الأطفال عرضة لمزيد من الانتهاكات" تقول منى*.
منى*، البالغة من العمر 41 عاماً، تعمل في المجال الإنساني منذ عام 2013، وقد بدأت عملها في مدينة حلب، خلال عملها، شهدت حالات مؤثرة مثل الأطفال الذين انفصلوا عن أسرهم بسبب قنص المعابر.
إحدى الحالات التي تعاملت معها كانت تتعلق بأطفال كانوا مع والدتهم عندما تعرضوا للقصف أثناء محاولتهم الهروب من حلب. الأم توفيت، بينما نجا ثلاثة أطفال (فتاة وطفلان) وتم نقلهم إلى مشفى بحلب في عام 2016، تم ترحيلهم لاحقاً إلى المناطق الخاضعة في ذلك الوقت لسيطرة المعارضة السورية.
الحل الأمثل كان وضعهم مع والدهم، لكن تبين لاحقاً بحسب كلام منى أنه يعاني من مشاكل تتعلق بإدمانه المخدرات، وقد استغل الأطفال في هذه الظروف. منى حاولت تقديم الدعم لهم من خلال توفير المواد القرطاسية وفرش للمنزل، ولكن الأب استمر في الإساءة إليهم، سواء بالضرب أو بطردهم من المنزل. الأطفال فقدوا والدتهم أمام أعينهم، وكانوا في وضع صعب للغاية.
ليست منى وحدها من شاركنا تحديات كبيرة خلال العمل مع الأطفال الذين تم التخلي عنهم، كل شخص قابلناه كان له تجربة مختلفة وبالفعل خطيرة، وربما كانت أخطرها تجربة خالد*.
الأمور لم تخلُ من التحديات القانونية والخطر الشخصي مع خالد الذي تعرض للملاحقة القانونية بعد أن أخذ طفلاً تم العثور عليه في مستشفى ورفضت الأم استلامه. تم اتهامه بأنه هو والد الطفل، وكان على وشك الوقوع في قضية كبيرة تتعلق بالدعارة، لكن تم حل القضية بعد أن تحققوا من عمله الإنساني الموثوق.
خالد الذي تتبع بنفسه ١٧ حالة لأطفال تم التخلي عنهم، أشار إلى أن الخروقات القانونية والشخصية كثيرة في هذا المجال، وأن المجتمع لا يتقبل التعامل السليم مع حقوق المرأة والطفل. كما أضاف أن السلطات القضائية لا تعمل بشكل موحد، مما يؤدي إلى استغلال الحالات. تحدث خالد عن حالات أخرى لم تُعلن.
أمل بحياة أفضل لهؤلاء الأطفال

في ظروف إنسانية قاسية، يتجسد حب الأسرة والتضحية في قصتي بسمة وجاد. بسمة، الطفلة التي لا يتجاوز عمرها تسعة أشهر، جاءت إلى أسرة جمال وأمل في أريحا بريف إدلب بعد عملية تقييم طويلة من قبل مركز حماية الطفل. منذ وصولها، غيرت بسمة مجرى حياة العائلة، حيث باتت "مصدر سعادة غير قابل للتعبير"، تقول الأم لنا إنها تضع كل أولوياتها في توفير أفضل رعاية وتعليم لبسمة، وتطمح أن تصل إلى أعلى المراتب الأكاديمية. ورغم التحديات المالية، فإنها تضع احتياجات الطفلة أولاً ولا تفكر في نفسها.
أما جاد، الذي أصبح في عمر السنتين، فقصته لا تقل تأثراً. تقول والدته إنها حلمت به طوال 22 سنة، وعندما جاء إليها ملأ حياتها بالفرح. كانت لحظة استلامه مؤثرة للغاية، خاصة عندما قامت بتأمين كل احتياجاته الأساسية من ملابس وحليب وأدوية.
الأم تحلم بأن توفر له أفضل تعليم ومستقبل، وتخشى لحظة أن يُسحب منها إلى والديه البيولوجيين في حال تم التعرف عليهم. فهي تأمل أن يكبر جاد ويشعر بالسلام ولا يحمل أي عبء نفسي حول ماضيه.
كلتا العائلتين، على الرغم من الظروف الصعبة، اختارتا أن يعطيا الأطفال الأمل والرعاية والفرصة لحياة أفضل، في ظل غياب تام للمعلومات عن العائلات البيولوجية للأطفال.
وقد قررت هاتين العائلتين بأنهما سوف يخبران الأطفال في وقت مناسب بالحقيقة عن ماضيهم، لتجنب أن يشعروا بالقلق أو الندم عندما يكبرون. فوالدة بسمة تأمل أن تكون الحقيقة التي ستعرفها طفلتها جزءاً من عملية بناء شخصيتها القوية، بعيدة عن أي عبء نفسي.
أين القانون في قضايا الأطفال الذين تم التخلي عنهم؟
القانون السوري منقسم حول قضايا الأطفال مجهولي النسب، ففي حين أصدر الرئيس السابق بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 2 عام 2023، لتنظيم شؤون هؤلاء الأطفال ورعايتهم، محدثاً هيئة عامة ذات طابع إداري تسمى "بيوت لحن الحياة"، والتي تعد المخولة قانوناً بكل ما يتعلق بالأطفال مجهولي النسب على كافة الأراضي السورية، في الوقت نفسه استمرت المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية قبل سقوط النظام بالعمل وفق القوانين السابقة لهذا المرسوم.
توضح المحامية السورية رهادة العبدوش لـ Tinyhand أن "الطفل المولود خارج إطار الزواج لا يُنسب إلى الأب وإنما يُنسب إلى الأم، وغالباً ما تتخلى الأم عنه، مما يستدعي تدخل الدولة لرعاية هؤلاء الأطفال". ويستند ذلك إلى المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 1970، الذي يعرّف الطفل مجهول النسب بأنه "الوليد الذي يُعثر عليه دون معرفة والديه". كما تشير المادة 18 من المرسوم ذاته إلى أن الرعاية تشمل:
- الأطفال مجهولي النسب الذين لا يوجد من يُلزم بإعالتهم شرعاً.
- الأطفال الذين يضلون الطريق ولا يملكون القدرة على الإرشاد إلى ذويهم بسبب صغر سنهم، أو ضعفهم العقلي، أو كونهم صمًّا وبكمًا، مع عدم محاولة أهلهم استردادهم.
في ظل غياب الجهات الحكومية المختصة، مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في مناطق سيطرة المعارضة السورية، اضطلع العاملون في المجال الإنساني بمسؤولية إيجاد أسر بديلة لهؤلاء الأطفال، لضمان كفالتهم وتعليمهم وتأهيلهم لحياة مستقلة.
العاملون في هذا المجال سعوا، رغم العوائق الاجتماعية وتحديات السلطات المحلية، إلى الالتزام بالمعايير القانونية السورية عند البحث عن أسر بديلة، والتي تشترط ألا يقل عمر كل من الزوجين الكفيلين عن الثلاثين ولا يزيد عن الستين عاماً، مع إمكانية استثناء هذا الشرط إذا رأت الوزارة مصلحة للطفل في ذلك، بالإضافة إلى ضمان توفير بيئة مناسبة من النواحي الاجتماعية، الاقتصادية، التعليمية، والصحية.
وتختم العبدوش بقولها: "اليوم، وبعد سقوط النظام، من المتوقع أن تتم مراجعة أو إلغاء أي مراسيم تشريعية صادرة خلال حكم الأسد بشأن الأطفال مجهولي النسب، بهدف توحيد القوانين في كافة المناطق السورية".